وما تخفي صدورهم أكبر
محمود صالح عودة
ما زال الموقف الغربي تجاه الثورات العربية والإسلامية بحاجة إلى توضيح، خاصة عندما يعتبر السناتور الأمريكي جون مكاين ثوّار ليبيا أنهم "أبطاله"، بينما لم يمتدح هو ولا الإدارة الأمريكية، ولا الدول الغربية، ثوّار اليمن - على سبيل المثال لا الحصر - الذين سبقوا الليبيين بالثورة، والذين ما زالوا يقدّمون نموذجًا حضاريًا رائعًا من خلال ثورتهم السلمية، ولو بكلمة بسيطة.
من المعلوم أن أنظمة الدول الغربية ليست عبارة عن منظمات خيرية، فالحرب على أفغانستان والعراق وإبادة الملايين من أهل البلدين أظهرت العدوانية الغربية البشعة تجاه المسلمين والعرب. من المعلوم كذلك أن التدخل الغربي في ليبيا لم يأت محبّة بالليبيين، إنما جاء محبّة وطمعًا بالنفط الليبي، والغاز الليبي، ولحاجات أخرى في نفوس النخب والأنظمة الغربية. فتلك الدول كانت صامتة أكثر من 40 عامًا على جرائم القذافي بحق الشعب الليبي، بالرغم من علمها التام بإرهابه وإجرامه، ولم تحرّك ساكنًا لدعم الشعب الليبي كل تلك الفترة، بل تحرّكت لمصالحها التي كان القذافي يحرسها، ولخروج الأخير أحيانًا من بيت طاعة الذين ورّثوه حكم ليبيا، وللحصول على حصص أكبر من الثروات الليبية.
لا شك أن التدخل الغربي - والعربي النسبي - في ليبيا محل جدل، وهو أمر طبيعي. ولكن الخطر يكمن في محاولات شرعنة الوجود العسكري الغربي في بلاد إسلامية وعربية أخرى، بعد ظهورها كمعين للثوّار في ليبيا.
في مقابلة أجراها معه موقع "سويس إنفو" حول التدخل العسكري الغربي في ليبيا، صرّح أحد كبار المحللين والمستشارين الأمريكيين، مايكل أوهانلن، مجيبًا على أحد الأسئلة التي وجّهت له: "يتعيّن أن تفكر قوات التحالف في تكرار السيناريو الذي نفّذته الولايات المتحدة في أفغانستان عام 2010، بإرسال مئات من المستشارين العسكريين ليعملوا مع الثوّار في ميادين القتال (...)". اللافت للنظر في تصريح أوهانلن، هو محاولته للمساواة بين الدعم الغربي لثوّار ليبيا، بالدعم الأمريكي للقوّات الأفغانية التابعة لحكومة حميد كرزاي، التي تشارك المحتلّين في جرائمهم بحق الأفغان وتستر عوراتهم، ومن ثمّ تبرير الاحتلال العسكري الأمريكي-الغربي لأفغانستان، وإعطاء الشرعية للوجود العسكري الأمريكي الغربي في البلاد الإسلامية والعربية.
وذلك مرفوض جملة وتفصيلاً؛ فهناك فرق شاسع بين حالة استثنائية يتم فيها استدعاء قوّات دولية بإجماع وطني، وبين فرض احتلال عسكري مرفوض بإجماع وطني (شعبي غربي قبل العربي والإسلامي)، خاصّة في الحالة الليبية؛ فهناك ثوّار وطنيّون يسعون للحصول على حقوقهم وحريّتهم، مقابل مرتزقة أجانب يعملون مقابل حفنة دولارات يوميًا، هم بمثابة احتلال أجنبي ميليشياوي.
صحيح أن الدول الغربية مختلفة على أكثر من صعيد، ولكن عندما يتعلّق الأمر بالعالم العربي الإسلامي، نجدها مجتمعة ومجمعة على الأهداف والغايات.
الذي استدعاني إلى ذكر ذلك، هو قول وزير الداخلية الفرنسي كلود غيان في شهر مارس الماضي، إبّان التدخل العسكري الغربي في ليبيا، إذ قال: "لحسن الحظ، الرئيس (ساركوزي) تولّى قيادة هذه الحملة الصليبية". لم يعتذر السيد غيان بعد استخدامه تلك العبارة، مع علمه التام بمعناها وثقلها وتأثيرها، خاصة عندما تصدر عن شخصية بارزة وجديدة في موقعها، وعندما تشمل القضية تدخلاً في بلد عربي إسلامي، إنما رأى لاحقًا أنه كان بإمكانه "أن يعبّر عن نفسه بطريقة أخرى".
حديث غيان ذكّرنا بخطاب بوش يوم 16/9/2001، بعد قيام النظام الأمريكي بمسرحية 11 سبتمبر واتهام المسلمين بالوقوف وراءها، عندما ذكر أنّ "الحرب الصليبية على الإرهاب (الإسلام) ستأخذ وقتًا"، ثم إشادته في خطاب لاحق يوم 16/2/2002، بوقوف كندا إلى جانب الولايات المتحدة في "الحملة الصليبية للدفاع عن الحرية". وهو ما يشير إلى أن أقواله لم تكن مجرّد "زلاّت لسان"، فـ"زلّة" واحدة بهذا الحجم كفيلة بانعدام "زلّة أخرى"، والسيد بوش لم يعتبر ما قاله "زلّة لسان"، إنما ذكر بعدها بثلاثة أعوام، أنه "قد يكون من الأفضل لو لم يستخدمها".
المطلوب الآن، هو عدم ذر الرؤوس في الرمال إزاء نوايا النخب والأنظمة الغربية الحقيقية تجاه عالمنا العربي والإسلامي، التي تصدر على ألسنتهم بكل وضوح - وما تخفي صدورهم أكبر - والخروج من موقع الدفاع عن النفس الذي حشرتنا فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد 11 سبتمبر، ظلمًا وبهتانًا، إلى موقع نحن أجدر أن نكون فيه، في ظل ثورة الحق على الباطل.