[center]"[b]وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها"
د. يوسف ربابعة
في الوقت الذي تشهد فيه الدول العربية مزيدا من الفوضى والاحتجاج العنيف والتخريب والتدمير والاعتداء على المؤسسات العامة والخاصة، تتجه الأنظار نحو القوانين الكونية التي أودعها الخالق في طبع الأشياء وصيرورة الأمور، ويبدو أن كثيرا من هذه الدول ستدخل مرحلة الهلاك والإهلاك، ولا أقول هنا بالهلاك الإلهي الذي يتصوره بعض الناس بشكله السحري والغيبي، بل هو الخراب المبني على قوانين السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهو الهلاك الناتج عن السلوك الذي يقوم به الأفراد وتمارسه الجماعات، والذي يؤدي إلى نتيجة حتمية، هي كما يقول الفلاسفة السبب والمسبب، أي أن هناك أسبابا معلومة إذا تحققت فإن النتيجة ستكون متوقعة أيضا.
لقد خاض المفسرون واختلفوا في قضية الأمر من الله للمترفين، كما اختلفوا في معنى الإرادة الإلهية بالإهلاك، وأنا هنا لا أريد أن أخوض في ذلك الاختلاف رغم فائدته، بل أريد أن أتوقف عند مجموعة من الملاحظات التي تشير إليها الآيات الكريمة في قوله تعالى من سورة الإسراء:" وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا"، فأنا هنا لا أرى أن الإرادة تعني الجبرية والحتمية التي ينزلها الله سبحانه عقابا مباشرا، بل هي الإرادة المتحققة بأسبابها، وقد يكون الهلاك بغير هذه الأسباب أيضا، فهناك في آيات أخرى هلاك بسبب الظلم واختلال موازين العدالة، فقد قال تعالى في مواضع أخرى: "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا" (الكهف)، وكذلك في موضع آخر:" فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ"(الحج)، فالهلاك له أسبابه في كل مرة، أما موضوع الأمر للمترفين فهو باعتقادي ليس متعلقا بأمر الله المحتوم، بل نتيجة طبيعية لما سيكون عليه المجتمع في حالة معينة، بحيث يصل المترفون إلى مكان صنع القرار، ومن ثم تكون نتيجة أعمالهم الفساد والتخبط وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، وذلك هو ما يسمى الفسق حين قال تعالى" ففسقوا فيها"، والفسق معناه الخروج عن الأمر، كما جاء في لسان العرب، فقال ابن منظور: "والعرب تقول إذا خرجت الرُّطَبةُ من قشرها: قد فَسَقَت الرُّطَبةُ من قشرها، وكأَن الفأرة إنما سميت فُويْسِقةً لخروجها من جُحْرها على الناس. والفِسْقُ: الخروج عن الأَمر. وفَسَقَ عن أَمر ربه أَي خرج"، ومعنى قوله ففسقوا فيها أي خرجوا عن جادة الصواب وتخبطوا في التخطيط، ولم يكونوا على قدر المسؤولية، فجاءت قراراتهم خاطئة نتيجة تفكيرهم الترفي، لأن الترف كان هو السبب وراء فسقهم وخروجهم عن المألوف الواجب اتباعه، والترف هنا لا يعني الغنى وكثرة الأموال، بل هو كما يقول ابن منظور:" المُتْرَفُ: المُتَنَعِّمُ المُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدنيا وشَهواتِها. وفي الحديث: أَنَّ إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فُرَّ به من جَبَّارٍ مُتْرَفٍ. ورجل مُتْرَفٌ ومُتَرَّفٌ: مُوَسَّعٌ عليه. وتَرَّفَ الرجلَ وأَتْرَفَه: دَلَّلَه ومَلَّكَه. وقد يكون الإنسان فقيرا وسلوكه مترف، بمعنى التوسع في ملذات الدنيا وشهواتها على حساب القيم والأخلاق.
ومن هنا فالآية الكريمة لا تدل بالضرورة على حتمية تولي المترفين زمام الأمور بأمر من الله كما هو مفهوم من ظاهر الآية، بل هي بيان لقانون كوني اجتماعي سياسي، ذلك أن أي مجتمع يسمح لمجموعة من المترفين بتولي السلطة فيه فإن ذلك سيؤدي حتما إلى أنهم سيتصرفون بعقلية الفسق، مما يؤدي ذلك إلى هلاك المجتمع وانحطاطه وتراجعه وتخلفه، كما الهلاك لا يعني التدمير المادي فقط، بل كل أشكال الجهل والصراع والفتن والعنف، لأنها كلها عوامل تعوق التفكير وتقتل الإبداع وتزرع اليأس، ومن ثم سيكون المجتمع غير قادر على البناء والتقدم. أليس ما نشاهده اليوم من تدمير وتحطيم وفوضى نوعا من الهلاك الذي تنذر به الأيام القادمة؟، ومن هنا يصبح لزاما على المجتمع أن يمنع وصول المترفين إلى السلطة، وأن يوقف زحفهم نحو السيطرة على صناعة القرار حتى لا يصل إلى مرحلة الهلاك، التي ستكون عواقبها وخيمة على الجميع، وهذا هو واجب المصلحين، إذ عليهم مسؤولية الوقوف في وجه التغول الترفي على المجتمع حتى لا يسير القانون الطبيعي نحو إمارة المترفين، الذين هم بالضرورة سيتخذون الفسق طريقا لهم، والفسق سيكون معبرا نحو الهلاك.
إن وجود المترفين قائمين بالأمر والنهي سيكون وبالا على المجتمع في حال عدم وجود المصلحين، أما إذا كان هناك من يقوم بهذا الدور فإن الأمور لن تسير نحو حتمية الهلاك، فقد قال تعالى في موضع آخر: "فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ"، فهذه الآيات تشير إلى أن هناك حلا لمشكلتين كبيرتين أساسيتين في الوصول إلى الهلاك، وهما الترف والظلم، أي أن أهم عاملين من عوامل هلاك المجتمعات هما انتشار الظلم ليصبح حالة اجتماعية لا أحد يقاومه، ووصول المترفين إلى صنع القرار والسياسة العليا في الدولة، والعلاج الذي يحمي المجتمعات من الهلاك هو وجود المصلحين والنخب التي تنكر وتستنكر وترفض.
إن كثرة المترفين وتكاثرهم في السلطة يشكل مصدر تهديد للمجتمع، وإذا تغلغلوا في مفاصل الدولة فإن خروجهم سيكون صعبا، وبالتالي لن يكون سهلا على المصلحين أن يوقفوا أيدي الهلاك التي يمكن أن تمتد لتدمر قيم المجتمع ومحركاته وتوقف إبداع الأفراد وتفتك بعقولهم، وتوصلهم إلى مراحل اليأس المستعصية، ولن يكون بعد ذلك مفر من حتمية القانون الذي سوف يدمرها تدميرا.
• أكاديمي أردني
[/b][/center]