كيف كان الحسن الثاني يتدخل في تقنيات النقل التلفزي للخطاب الملكي
طالب بتوجيه الكاميرا نحوه أثناء استماعه للنشيد الوطني بدل الاكتفاء بالعلم
توفيق ناديري
ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات
التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971.
سجلت المسيرة الخضراء مرحلة جديدة في مجال تعامل الحسن الثاني مع التلفزة المغربية، حيث كانت المناسبة المواتية التي أدخلت تغييرا هاما على المراسم الخاصة بالخطب التي اعتاد الملك إلقاءها بمناسبة عيد العرش أو الأعياد الوطنية الأخرى أو المناسبات الطارئة التي تدعوه لمخاطبة الشعب المغربي.
فعند تقلد الحسن الثاني مُلْك المغرب، أصبح النشيد الوطني يعزف عند بداية ونهاية كل خطاب ملكي، على خلفية العلم الوطني الذي عادة ما يملأ فضاء الشاشة التلفزية كلها، ولا يظهر الملك إلا عند ختام النشيد الوطني، حيث يشرع في إلقاء الخطاب. واستمر الوضع على هذه الطريقة 14 سنة كاملة، أي إلى عام 1975، سنة المسيرة الخضراء.
وأود هنا توضيح ظاهرة تقنية كان العمل جاريا بها في التلفزة المغربية خلال العقود الأولى، بالنظر إلى عدم توفر التقنيات الحديثة. كان العلم الوطني يوضع في جانب القاعة التي ينقل منها الخطاب الملكي وتسلط عليه الأنوار وأيضا كاميرا التصوير طيلة فترة النشيد الوطني المسجل على شريط مغناطيسي، تتكفل الوحدة التقنية التابعة للإذاعة بالإشراف عليه.
أما اليوم، فقد ولى ذلك العهد وأصبحت هناك تقنيات حديثة تتحكم في مثل هذه العملية، انطلاقا من حافلة الإرسال والإخراج، صورة وصوتا.
كان لابد من هذا التوضيح لفهم ما يأتي ذكره.
كانت المسيرة الخضراء حدثا تاريخيا كبيرا في حياة المغرب والمغاربة، وقد اختار الحسن الثاني يوم الإعلان عن تنظيم هذه المسيرة إدخال تعديل على تقليد كان هو من أحدثه بنفسه في مجال مخاطبة الشعب المغربي عن طريق الوسائل البصرية بصفة خاصة.
في ذلك اليوم، الخميس 16 أكتوبر 1975، انتقلت إلى مدينة مراكش مع الفريق التقني لننقل من هناك خطابا للملك الحسن الثاني، دون أن نعرف المناسبة التي دعت إلى ذلك (وبالمناسبة أؤكد أنه خلافا للاعتقاد السائد بأن أصحاب الإذاعة يعرفون كل شيء، فإننا لا نعرف مسبقا إلا ما سيعرفه المستمعون بعد وقت قصير ضمن النشرات الإخبارية).
في صبيحة ذلك اليوم نفسه، صدر عن محكمة العدل الدولية بلاهاي الرأي الاستشاري الذي طلبه المغرب ـ بالاشتراك مع إسبانيا ـ عن طريق الأمم المتحدة لمعرفة ما إذا كانت الصحراء، قبل احتلالها من طرف إسبانيا أرضا خلاء، لا مالك لها، وما هي العلاقة التي كانت تربطها بالمغرب.
وجاء في الرأي الاستشاري ما قوى الموقف الذي ما فتئ المغرب يدافع عنه منذ حصوله على الاستقلال، وخاصة في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
ولا بأس هنا من التذكير ببعض الوقائع التاريخية التي سبقت قرار محكمة العدل الدولية. فقد أعلن الحسن الثاني خلال ندوة صحافية عقدها يوم 17 شتنبر 1974 أن المغرب سيطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تعرض على محكمة العدل النزاع القانوني بين المغرب وإسبانيا بخصوص الصحراء، وبالفعل استجابت المنظمة الدولية للطلب المشترك المغربي الإسباني، حيث أصدرت يوم 13 دجنبر 1974 قرارا طلبت بمقتضاه من محكمة العدل الدولية أن تجيب على سؤالين: الأول هل كانت الصحراء الغربية (وادي الذهب والساقية الحمراء)، خلال استعمارها من طرف إسبانيا أرضا خلاء، لا مالك لها، والسؤال الثاني (وفي حالة ما إذا كان الجواب عن السؤال الأول سلبيا) ما هي العلاقات القانونية التي كانت تربط هذه الأرض بالمملكة المغربية.
وفي 25 مارس من عام 1975 بدأت محكمة العدل الدولية في دراسة الملف، وبعد سبعة أشهر، أي في صباح يوم الخميس 26 أكتوبر من العام نفسه، قدمت محكمة العدل رأيها الاستشاري للجمعية العامة للأمم المتحدة، رأي يؤكد أن الصحراء لم تكن أرضا خلاء وأن روابط البيعة كانت قائمة بين المملكة المغربية والصحراء.
وهذا الرأي الاستشاري هو الذي كان القاعدة الشرعية التي اعتمد عليها الحسن الثاني في تنظيم مسيرة فتح لاسترجاع الصحراء كما أعلن ذلك في خطاب مساء ذلك اليوم.
لم يكن أحد من الصحافيين ولا من المدعوين، على اختلاف صفاتهم ومراتبهم، للاستماع إلى الخطاب الملكي من يدعي في ذلك اليوم معرفته بموضوع الخطاب الملكي. وكانت الآراء متباينة بين هؤلاء في مناقشتهم وتساؤلاتهم وهم ينتظرون ساعة الخطاب الملكي. لقد ظلت فكرة المسيرة الخضراء ـ كما عرفناه من بعد ـ سرا محفوظا في صدور كل الذين كانت لهم علاقة مباشرة أو مسؤولية ما في مراحل الإعداد لها، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين.
وحين اقترب موعد الخطاب، أذن للمدعوين بالدخول إلى القاعة بالقصر الملكي بمراكش، وفيهم أعضاء الحكومة وكبار رجال الدولة، (كما كنا نسميهم في الإذاعة) من مدنيين وعسكريين، وأيضا ممثلو الأحزاب السياسية والنقابية ورجال المقاومة وجيش التحرير، وكانت القاعة التي احتضنت هذا الاجتماع ضمن المباني القديمة في القصر، حيث لم يكن إذ ذاك قد تم بناء الأجنحة الجديدة التي شهدت أغلب الأنشطة الملكية في العهود الأخيرة من حياة الحسن الثاني.
كانت الإذاعة والتلفزة قد استكملت جميع الترتيبات الخاصة بالنقل المباشر للخطاب الملكي، فقد نصب العلم الوطني في أحد أركان القاعة والخطوط مرتبطة بالمركز في الرباط والتعبئة عامة في جميع مراكز الإرسال عبر المملكة، تماما ككل مرة يتعلق الأمر بخطاب ملكي، حتى يمر النقل المباشر في أحسن الظروف.
والكل ينتظر ... وأنا في موقعي أمام الميكروفون على أهبة لإعلان إشارة الانطلاق: «أيها المواطنون أيتها المواطنات، صاحب الجلالة يخاطبكم» كما هي العادة.
في هذه الأثناء، جاءني من يخبرني بأن جلالة الملك يدعوني للالتحاق به في غرفة مجاورة للقاعة، سرت وراء الرسول إلى أن توقفت أمام الحسن الثاني فسلمت على جلالته وأخرجت من جيبي ورقة وقلما على عجل، حتى إن القلم سقط من يدي، فقال لي جلالة الملك وأنا أهم بالتقاطه من الأرض: «سوف لا تحتاج لأي كتابة واستمع فقط إلى ما سأقوله لك».
ما قاله لي الحسن الثاني يتعلق بالتحول الذي أشرت إليه سابقا، فقد طلب مني أن تتخلى التلفزة من الآن فصاعدا عن الطريقة القديمة المتبعة أثناء نقل الخطب الملكية فيما يرجع لتعامل الكاميرا مع العلم الوطني، وأن يتم توجيه الكاميرا نحو شخص جلالته وهو واقف يستمع إلى النشيد الوطني.
وذلك ما تم بالفعل، واستمر العمل بهذه الطريقة التي اعتاد المشاهدون عليها طيلة 24 سنة إلى آخر خطاب ألقاه الحسن الثاني يوم 8 يوليوز 1999 بمناسبة الذكرى السبعين لميلاده وذكرى عيد الشباب، أي قبل 15 يوما من وفاته رحمه الله يوم 23 يوليوز 1999.
صدر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول الصحراء يوم 16 أكتوبر 1975 صباحا، وفي مساء اليوم نفسه كان الحسن الثاني يعلن للشعب المغربي عن تنظيم المسيرة الخضراء التي كان الاستعداد لها على أرض الواقع قد انطلق قبل ذلك بوقت طويل وفي نطاق السرية الكاملة.
فكيف، إذن، جرت هذه الاستعدادات والترتيبات على أرض الواقع ومحكمة العدل الدولية لم تفصح بعد عن رأيها الاستشاري؟ هل كان الحسن الثاني على يقين أن موقف المحكمة سيكون لفائدة المغرب؟ أو أن الإشارات جاءته من لاهاي أو من عواصم أخرى جعلته يتأهب مبكرا لهذا الحدث التاريخي ؟ أم أنه كان عازما على تحرير الصحراء بهذه الطريقة السلمية وكيفما كانت عواقبها ولو لم يكن الرأي الاستشاري للمحكمة مطابقا لما كان ينتظره؟
وفي هذا الصدد، وجب التذكير بمشاعر القلق التي كانت تراود الحسن الثاني وهو ينظم المسيرة الخضراء حتى بلغ به التفكير في التنازل عن العرش إذا ما مني المشروع بالفشل، كما صرح بذلك بنفسه.
هذه الأسئلة ستبقى معلقة في انتظار اليوم الذي ستكشف فيه الوثائق عن حقيقة الأجوبة، بعد أن غاب عن هذه الدنيا كثير ممن كان لهم دور في تنظيم المسيرة الخضراء، ولكن في استطاعة من بقي منهم على قيد الحياة الإجابة عن هذه التساؤلات قبل فوات الأوان.
في مساء يوم الخميس 2 شتنبر 1999، ظهر الملك محمد السادس على شاشة التلفزة المغربية بمناسبة الذكرى الأربعينية لوفاة والده الملك الحسن الثاني وانتهاء فترة الحداد الوطني، فقد وجه جلالته في ذلك اليوم كلمة أثنى فيها على الشعب المغربي لوقفته الحضارية النبيلة المخلصة خلال المصاب الأليم بفقد ملكه.
ولاحظ المشاهدون الذين كانوا أمام أجهزتهم التلفزية في ذلك اليوم أن العلم الوطني عاد ليشغل وحده مكانته القديمة على الشاشة أثناء عزف النشيد الوطني الذي يسبق بداية كل خطاب ملكي، ولم يظهر محمد السادس على الشاشة إلا عندما بدأ يلقي خطابه، وهي الطريقة التي كان العمل جاريا بها قبل عام 1975 من طرف والده كما أوضحت سابقا.
وكنت أظن وأنا ألاحظ هذا التغيير من بعيد أن الملك محمد السادس اختار الرجوع إلى الطريقة القديمة، ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى تم الانتقال مرة أخرى إلى الطريقة التي خلفها والده وأصبح النشيد الوطني يعزف على خلفية الملك واقفا. وعاد العلم الوطني إلى الظهور على الشاشة، ولكن هذه المرة على جانب الملك أثناء عزف النشيد الوطني.