القصة الكاملة لـ 'حراقة' عادوا من رحلة الموت
البداية كانت بحلم راودهم بالوصول إلى الضفة الأخرى، لان رغد العيش بأوربا أو جنة الله في أرضه كما تبدو لغالبية الشباب الحالم بالخلاص من شظف العيش والهروب من شبح البطالة يستحق في نظرهم المغامرة بالأرواح، ولان الغاية لم تكن مضمونة فكان الحال أبشع فاصطدمت أحلامهم الوردية بأمواج البحر العاتية التي تهاوت أمامها زوارقهم التقليدية فهلك من هلك وقبع من كتبت له النجاة خلف القضبان يندب حظه وينعي صحبته.
عبد المجيد.ذ
إن التطرق لملف الحرقة ليس بالسهولة بما كان لان الخوض في غمارها يتطلب صبر أيوب كما يقولون ولغياب مصادر أكثر اطلاعا بالملف ارتأينا أن نكتفي ببعض الحالات التي عايشت المغامرة وكانت لها تجربة مع قوارب الموت، والسبب الوحيد يعود إلى صعوبة الاتصال بهم من جهة، بالإضافة إلى حالة التكتم التي تسود هذه الظاهرة، ولكن رغم ذلك تمكنا من رصد حكايات بعض من خاضوا غمار الحرقة.
"تجار الموت" يكسبون ثم يفرون...
إذا اعتدت التردد على بعض المقاهي الشعبية بالأحياء الفقيرة في المدن الساحلية منها على وجه الخصوص , فإنك تستطيع مشاهدة كيف تتم عملية المفاوضات بين " الحراق" والوسيط في عملية الهجرة السرية , ففي مثل هذه الأماكن تنشط جماعات مهربي البشر هذا ما اخبرنا به بعض العارفين بالظاهرة و في محاولتنا الكشف عن عمل هذه الجماعات , حاولنا الاتصال بأحد" بارونات" تجارة الموت إلا أن هذا الأخير كان متواجد بالمهجر لمدة غير معروفة حسب ما علم من مصادر مطلعة . لذا فقد اكتفينا بالحديث مع أحد معارفه و بعض الحراقة بالمنطقة .
كنت قد سمعت عنه من صديق لي أثق به كثيرا، اخبرني عن قصته ولفضولي الشديد حاولت الاتصال به هاتفيا إلا أن أملي خاب بعد أن وجدت هاتفه المحمول خارج مجال التغطية، وبعد أن اتصل صديقي بأحد معارفه اخبره بأنه يوجد خارج التراب الوطني، لأكتفي في نهاية المطاف بسرد حكايته مع "تجارة الموت" من طرف بعض من عرفوه وتعاملوا معه.
فالاتصال بـ " تجار الموت " ليس بالأمر السهل, والسبب يعود إلى أنهم يدركون مدى الجرم الذي يرتكبونه بتقاضيهم أموالا طائلة مقابل إرسال الشباب إلى المجهول لذا يحبذون البقاء في الظل وبعيدا عن الأعين وغالبا ما يكون الاتصال بهم عن طريق وسطاء غالبيتهم شباب عاطل عن العمل , الذين اخبرونا بأنه يبلغ من العمر حوالي 50 سنة قضى نصف عمره في التنقل بين الدول الأوربية كألمانيا وبريطانيا حيث اكتسب هناك معظم التقنيات والخبرات في مجال تمرير الأفراد نحو الضفة الأخرى كان يقصد احد المقاهي الشعبية بضواحي ولاية البليدة والتي اتخذها مكانا مناسبا للتفاوض مع الزبائن حيث تكون يدوم التفاوض معه أكثر من مرتين ولا تدوم المقابلة الواحدة معه أكثر من نصف ساعة حتى لا تثار حوله الشكوك حيث يستفسر خلالها عن أسباب رغبة الزبون في مغادرة الجزائر وعن مستواه التعليمي، وكذا عن أوضاعه الاجتماعية، بالإضافة إلى أسئلة أخرى عن هويته ومكان إقامته..الخ، وكل هذا يدخل بحسب المتحدثين من باب الثقة، كما قدموا لنا شرحا تفصيليا عن المراحل لركوب أمواج البحر التي تتمثل في صورتين وبعض المعلومات الشخصية و مبلغ مالي أولي يقدر بـ5000 دينار كشطر أول كافيان لاستخراج دفتر بحري و تسليمه إيانا بعد دفع القسط الثاني والمقدر كذلك بـ 5000 دينار، في حين يقدر المبلغ الكامل لاكتمال الرحلة 200000 دج، كما حاول محدثونا إقناعنا أنه باستطاعتنا مغادرة أرض الوطن بكل حرية في سفينة تجارية تبحر من ميناء العاصمة عبر هذا الدفتر في حالة ما إذا استطعنا جمع المبلغ الإجمالي لهذه العملية قبل مدة يحددها هو .
مهما اختلفت الأسباب فقد يبقى الهدف واحدا وهو : تهريب شباب الجزائر المعول عليه كثيرا في دفع عجلة التنمية في المستقبل القريب في شتى الميادين و المتاجرة بأرواحهم , حيث يوجد نوع آخر من المهربين يفضلون إرسال هؤلاء الشباب المتطلع لحياة أفضل عبر قوارب صغيرة لا يزيد طولها عن 6 أمتار أو ثمانية في بعض الأحيان "الزودياك"، مجهزة بمحرك ثنائي الدفع غير صالح لمثل هذه الرحلات الطويلة، بالإضافة إلى بوصلة وقد يسخروا لهم في بعض الأحيان دليلا يقودهم إلى وجهتهم المقبلة، ثم يعمدون بعد ذلك إلى شحنها بثمانية أشخاص إلى عشرة أو يزيد، مما يزيد بكثير عن حمولة هذه القوارب ويؤدي بالتالي بالهلاك المؤكد والحتمي لهؤلاء الشباب.
لحظة يأس تقود إلى المجهول
"صوت الأحرار" وبعد جهد مضن تمكنت من رصد شهادات بعض من خاضوا مغامرة "الحرقة" وعايشوا هذه اللحظات فكانت هذه التصريحات.
قصة سفيان البالغ من العمر 27 سنة هي مثال حي لما عاناه شبابنا الذين ضاقت بهم السبل فرمى بنفسه في أحضان البحر دون أن يعير لمخاطره أدنى اهتمام تجذبه أكذوبة الحياة الكريمة في أوربا وكمن يئس من العيش في أرضه وبين أحضان أسرته فكانت هذه اللحظات "خاض المغامرة قبل سنتين ليجد نفسه قرابة السواحل المغربية بعد رحلة تعيسة دامت قرابة الثلاثة أيام في عرض البحر عاش خلالها لحظات لا تنسى رفقة من كانوا معه وذلك بعد أن ظلوا الطريق ووجدوا أنفسهم تائهين تتقاذفهم أمواج البحر حتى أنهم يئسوا من النجاة خاصة بعد أن نفذ منهم الماء والزاد إلى أن تم انتشالهم من قبل حراس السواحل المغربية، في أول وآخر مغامراته مع عالم الحرقة،.
ليختم لنا حديثه بعبارات تنم عن مدى تشعب الظاهرة وضرورة معالجتها من جذورها بالبحث عن الأسباب والخلفيات التي أدت إلى ركوب شبابنا أمواج البحر فقال" الشباب يرى في الهجرة السرية الحل الوحيد لجميع مشاكله التي يهرب منها، إلا أنني لم افهم التدابير المعتمدة في بعض الدول كالمتابعة القضائية للمهاجرين وفي بعض الأحيان ينتهي الأمر بهم في السجن. المهاجر يقدم على الموت طلبا لحياة أكرم فبالإضافة إلى فشله واستمرار وضعه المتردي نضيف إليه الحبس إي كأننا نربي جيلا جديدا من الساخطين على المجتمع فالمهاجر يخرج من السجن و هو فاقد الأمل من كل شيء وبنفسية مهيأة لاصطياده من بعض الجماعات المتطرفة التي تصطاد مثل هؤلاء الشباب .أنا أرى من خلال تجربتي مع الحرقة أن المهاجر السري في حاجة إلى التكفل اجتماعيا وليس متابعته قضائيا فهذا سيزيد الطين بلة.
في حين يقول "رضا" – يبلغ 32 سنة- أن " الجنة هناك في أوروبا "حيث تخرج رضا من الجامعة منذ مدة دون أن يجد عملا له لذلك يعتقد أن الحل الوحيد للمشكلة هو خوض المغامرة والهجرة بطريقة غير شرعية إلى أوروبا، وأضاف أنه جازف بحياته مرتين وفشل في كلاهما معربا عن أمله في الوصول إلى هنالك يوما ما، مؤكدا أنه سيكرر العملية مهما كلفه الأمر لأنه سئم العيش في البلاد لأسباب عديدة أهمها عدم تمكنه من الحصول على عمل منذ تخرجه من الجامعة في 2001.
بينما ألح " خير الدين "28 سنة قبل أن يروي لنا قصته على أن يسمع الرأي العام صوته فقال "إن الشباب الحالم بفجر أوروبا …ستستقبله هذه الأخيرة بجحيمها إن تمكن من الوصول إليها حيا"، "خير الدين" الذي كرر التجربة مرة ثانية و ثالثة و الرابعة كادت أن تسلبه أعز ما يملك وهي الحياة بعدما قضت على أصدقائه الأربعة في عرض مياه المتوسط، ناشد الشباب الجزائري عبر"صوت الأحرار" بأن يعزف عن المخاطرة بالنفس وأن لا يرمي بنفسه إلى المجهول وأن يتحلى بالصبر فهو مفتاح كل كرب كما صرح به، مضيفا انه لا عز ولا كرامة إلا في أحضان الجزائر وان الجنة الموعودة ما هي إلا أوهام في أوهام لا يدرك حقيقتها إلا غافل ليختم حديثه بما جاء في إحدى أغاني المرحوم حسني أردنا أن نكتبها كما جاءت على لسانه" نقبل لي راهو في بلادي ولا ذل الغربة ".
أكثر من 20 مليون لشراء الموت
حكى لنا خير الدين عن قصته مع الحرقة فقال: "بعد أن جمعت 250000دج تكلفة الرحلة ركبت القارب رفقة 11 شخصا حيث حدد توقيت انطلاقنا بالساعة العاشرة مساءا على أمل بلوغ إلى الشواطئ الاسبانية، وبعد مسير حوالي 7 ساعات بدا البحر في الهيجان فذهب جميع من كان بالقارب بتفكيره بعيدا، فصورة الموت قد رسمت في مخيلة الجميع، قبل أن تلمحنا إحدى البواخر التجارية التي اكتشفنا فيما بعد بأنها اسبانية من خلال العلم الاسباني وكذا حديث طاقمها، الذي أدرك بان خطر الموت يداهمنا، وبعد أن اقتربوا منا انقلب القارب الذي كان يقلنا بفعل الأمواج العاتية التي كانت تحدثها الباخرة العملاقة، حيث رموا لنا الحبال وبعد جهد كبير استطعت أن امسك بأحدها نتيجة التعب والإرهاق الكبيرين الذي كنا نعاني منهما، وبسبب الخوف الذي كان ينتابني لم استطع أن انتبه إلى مصير من كانوا بصحبتي في القارب والذين كان عددهم 11 شخصا، وبعد أن عدت للوعي اكتشفت أن عدد الناجين كان 7 أشخاص فقط، يضيف سفيان كنت محظوظا جدا لأنني نجوت من الموت المحتم ، في حين كنت اسمع صراخ أصحابي وهم يطلبون النجاة، لترتسم هذه الذكرى التعيسة إلى اليوم في مخيلتي" وقد انتهت الرحلة بمواراة" الضحايا" التراب بمسقط رأسهم فيما أحيل خير الدين الذي دفع مبلغ ومن نجا معه على المحكمة ليتابعوا بتهمة الهجرة السرية.
قد يتحمل هؤلاء الشباب خطر الموت، و شقاء الرحلة - إن هم نجحوا - وقد يتحمل أولياؤهم عذاب فراقهم سواء إن هم ماتوا، أو فقدوا أو حتى وصلوا إلى بر الأمان، و قد يتألم أي جزائري لما يعانيه الشباب الذي يرمي بنفسه إلى التهلكة في لحظة ضعف، بعد أن رسم في مخيلته حياة جديدة في أوربا حين يفر من واقعه بحثا عن المستقبل والأمل وأي أمل الذي يحيط به الظلام بعد أن تصادفه كل أنواع الحيتان تتسابق لالتهامه فيصبح المتوسط مقبرة شبابنا وإما أن يصل إلى أرض غريبة يعيش بها مهمشا فارا من شارع لشارع ..لا هوية..لا انتماء..ولا عائلة، ليبقى فقط صوت الأم يتردد في أعماقه وحنينه إلى أرضه التي ندم على تركها في لحظة يأس، ولكن الذي يتحمل وزر هذه الظاهرة كاملا، هم وحدهم فقط بارونات وتجار الموت الذين يتاجرون بأرواح أبناء الجزائر وشبابها عبر قوارب الموت.