لا شك أن الإنسان العربي، حتى الأميّ، بات يدرك، قبل فضائح ويكي ليكس وبعدها، أن معظم حكامه هم عبارة عن ثلة من القتلة واللصوص والفاسدين والمنحرفين والنصابين والأفاقين والخونة.
وبالتالي قبل أن نلوم الشعوب على انحرافها وفسادها، لابد أن نلوم أولياء أمورها، فكما هو معروف إذا كان رب الأسرة فاسداً ومنحرفاً فلا تثريب على الأبناء، فمن المعروف أن الأب هو المسؤول الأول والأخير عن تربية أسرته وتعليمها الأخلاق ووضعها على الطريق الصحيح. ولو حدث وأن كان أحد الأولاد في أسرة ما شاذاً أو سيئاً، فإن اللوم يتوجه على الفور إلى وليّ أمره، كأن يقول الناس: "هذا الولد بلا تربية"، أو "لعنة الله على والديه أو الذين خـلّفوه". بعبارة أخرى، فإن لوليّ الأمر دوراً مهماً جداً في إخراج ذرية صالحة. وإذا فسد الأصل فلا بد للفرع أن يكون فاسداً بالضرورة. وقد عبّر الشاعر العربي عن هذه الحالة ببيته الشهير: "إذا كان ربّ البيت للطبل ضارباً، فشيمة أهل البيت كلهم الرقص".
كيف نلوم الشعوب العربية على فسادها ونفاقها وتدهور أخلاقها وانحرافها وتلاشي شعورها الوطني بعدما أكدت لنا تسريبات ويكي ليكس كل الشكوك حول فساد معظم الحكام العرب وخيانتهم لبلدانهم واتخاذهم من الكذب والتآمر والنفاق سياسة رسمية؟ لقد كشفت لنا إحدى الوثائق أن زعيماً عربياً كان يحرّض القوات الأميركية، ويتآمر معها، ويساعدها على ضرب أبناء شعبه المفترض أنه وليّ أمره وحامي حماه، فقد كان يتستر على الغارات الجوية الأميركية الهمجية على بعض الجماعات المعارضة في بلده من خلال الادعاء بأن قواته "الوطنية" هي من تنفذ تلك الهجمات. وقد أخبر ذلك الزعيم الجنرال ديفيد بتريوس قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط وقتها، حسب تسريبات ويكي ليكس، بأنه سيواصل القول أمام شعبه: "نحن من قام بتوجيه الضربات وليس أنتم الأميركيين". تصوروا، يا رعاكم الله، كيف يتآمر ذلك الزعيم مع القوات الأميركية التي تستخدم أعتى أنواع الأسلحة المحرمة دولياً على أبناء بلده بالسماح لها بأن تبيد المئات منهم، كما لو كانوا أسراباً من الذباب. وكي لا يحرج الأميركيين كان يزعم أنه قائد وطني يتصدى للإرهابيين. يا سلام على الوطنية والشرف والأخلاق العربية الأصيلة!
بربكم، عندما يطـّلع الشعب في بلد ذلك الزعيم على تصرفات قائده ووليّ أمره، هل تراه سيلتزم بالأخلاق والاستقامة والوطنية، أم إنه سيبيع الوطنية وحسن السلوك بقشرة بصل؟ هل نستطيع أن نتهم مواطناً ببيع ضميره والتآمر على وطنه وخيانة أهله وذويه عندما نعلم أن ولي أمره يتآمر مع الأجنبي على أبناء جلدته، لا بل يتستر على جرائم الأميركي بحق أبناء الوطن حتى لو كانوا معارضين أو متمردين؟
كيف للإنسان العربي البسيط أن يحافظ على وطنيته عندما يعلم أن وزير الدفاع في دولة عربية أخرى، حسب ويكي ليكس، كان يتآمر مع إسرائيل لضرب جماعة في بلده فقط لأنه مختلف مع تلك الجماعة سياسياً؟ ألا تشجع مثل هذه التصرفات الشعوب على الخيانة واستسهالها؟ لماذا نلوم مواطناً بسيطاً إذا تعامل أو تخابر مع الأعداء، بينما يمارس أولياء الأمور في بلده أقصى درجات الخيانة العظمى كشرب الماء؟
كيف نلوم الناس العاديين عندما يتقاتلون فيما بينهم على أساس طائفي، إذا كان بعض أولياء أمورهم يحرضون الأميركان، حسب تسريبات ويكي ليكس، على ضرب هذه الجماعة العربية أو تلك لمجرد أنها تختلف معهم مذهبياً أو طائفياً؟ كيف نطلب من الناس البسطاء أن يكونوا صفاً وطنياً واحداً إذا كان عِلْيَةُ القوم في بلدهم أشخاصاً عنصريين دينياً تحركهم أحقادهم الطائفية البائسة؟ كيف نحاسب التلميذ ونشفع للمعلم؟
كيف نريد من الشعوب أن تحافظ على ثرواتها الوطنية، وأن لا تسرق، ولا تنهب، ولا تأكل بعضها البعض، ولا تتعامل مع المال العام على أنها غنيمة عندما تكشف لنا ويكي ليكس أن معظم قادتنا يبذرون ثروات الأوطان على مصالحهم الشخصية والعائلية تحت حجج واهية؟
كيف نريد من الشعوب أن تسير على الصراط المستقيم في الحصول على لقمة عيشها إذا كان الكثير من قادتها، كما أظهرتهم وثائق ويكي ليكس، يحتالون على ثروات البلاد ويسرقونها بطرق ملتوية، ويستأثرون بها هم وحاشياتهم. ألم تكشف برقيات دبلوماسية أمريكية سرية نشرها موقع ويكي ليكس أن المحيط العائلي لبعض الرؤساء العرب "أشبه بالمافيا"؟ لا تثريب على الناس العاديين أبداً إذا عملوا بمبدإ "الأقربون أولى بالمعروف" وضربوا بالمصلحة العامة عرض الحائط!
كيف نريد من الناس أن يكونوا متسامحين ومتقبلين للنقد والرأي الآخر إذا كان قادتهم متجبرين ومستبدين بآرائهم ولا يقبلون حتى العتاب؟ ألم تـُصب غالبية الشعوب بالعدوى من زعمائها؟ ألم يصبح الإنسان العربي نزقاً جداً لا يقبل النصيحة من أحد، ويثور ضد أي انتقاد بسيط؟ ألم تكشف وثائق ويكي ليكس بأن بعض الأنظمة العربية "لا يقبل لا النقد ولا النصح"؟
كيف نريد من الشعوب أن تتآخى فيما بينها، وأن تحب لإخوانها كما تحب لنفسها إذا كان قادتها يتآمرون على إخوانهم في العروبة والإسلام بكل خسة؟ ألم تكشف لنا وثائق ويكي ليكس ومن قبلها مذكرات الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش أن البعض كان يحرض الأميركان على ضرب بلد عربي آخر، ناهيك عن تقديم الغالي والنفيس لهم كي يعيثوا قتلاً ودماراً هنا وهناك؟ كيف سيتصرف الإنسان العربي العادي عندما يعلم أن زعماءه هم عبارة عن أناس بلا شهامة ولا مروءة ولا أخلاق وليس لديهم شعور بالأخوة بين بعضهم البعض، وأنهم مجرد مرتزقة يمكن أن يبيعوا أقرب الناس إليهم بقرش صدئ؟ من علّم الناس في بلداننا قلة الأمانة والإخلاص غير أولياء أمورنا؟ ألم تصبح خيانة الأخ لأخيه في بلداننا العربية أمراً عادياً جداً؟ ألم تصبح الأمانة عملة نادرة جداً؟ كيف نريد من البسطاء أن يحفظوا الود إذا كان علية القوم من حولهم فقدوا أخلاقهم الأساسية؟ ألا يقول الشاعر: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"؟
كيف نريد من شعوبنا أن يتحلوا بأخلاق الإسلام والابتعاد عن المنكرات، إذا كان أولياء أمورهم يتظاهرون بالعفة أمام الناس، ويمارسون الرذيلة والموبقات والانحلال الأخلاقي والليالي الحمراء في الخفاء بشهادة الدبلوماسيين الأميركيين؟
وأخيراً، وهو الأهم، كيف نريد من الشعوب أن تتحلّى بالصدق إذا كان قادتها فنانين في الدجل والكذب؟ ألم تكشف لنا ويكي ليكس أن معظم زعمائنا يمتهنون الكذب والنفاق؟ ألا يقولون شيئاً أمام الشعوب، ويقولون شيئاً مخالفاً تماماً خلف الأبواب المغلقة؟ ألم تتحول السياسة العربية، حسب اعترافات الدبلوماسيين الأميركيين، إلى كذب في كذب؟ ألم تسبّب الإحراج للكثير من المسؤولين والقادة العرب عندما أظهرتهم بأنهم ثلة من الأفّاقين؟ صحيح أن السياسيين يكذبون في كل العالم، لكن ليس بالقدر الذي ظهر فيه الحكام العرب. وإذا اكتشفت الشعوب الحية أن قادتها يكذبون عليها فهي قادرة على معاقبتهم وفضحهم وتلقينهم دروساً لا ينسونها حتى لو بعد حين. بينما أصبح الكذب في بلداننا العربية سياسة رسمية بامتياز.
أليس من علامات اختفاء الأخلاق الكريمة في محيط أمة من الأمم هو انتشار الكذب والنفاق، يتساءل أحدهم؟ وهاتان الخصلتان تأتيان في مقدمة المثالب التي تعانى منها شعوبنا. ومن المؤكد أن هاتين الخصلتين، اللتين ورثتهما الشعوب عن قادتها، قد ساهمتا في ضعف الانتماء للوطن وفي ازدياد معدل الأنانية، وفقدان الثقة، ومن ثم انتشار الفساد وتدهور روح الإخاء والمودة والتضامن. كم يشعر المرء بالحسرة لأنه كان يسير على الطريق المستقيم طوال حياته، بينما تـُدار بلداننا بعقلية النصابين وقطاع الطرق؟
من الذي يفسد مجتمعاتنا ويدمرها من الداخل حسب ويكي ليكس؟ من الذي يشجع التآمر والخيانة واللصوصية والطائفية والفساد وانعدام الأمانة والإخلاص والكذب؟ أليس أولئك المفترض أنهم المؤتمنون عليها؟ أليس حاميها حراميها في حالتنا العربية؟ هل نلوم الشعوب بعد اليوم؟ أليس الناس على دين ملوكهم؟ أليس الثلم الأعوج من الثور الكبير؟.