"إيلاف" تكشف عن عمليات نصب وشعوذة في المغرب يدعي ممارسوها أنهم يترافعون عن زبائنهم ضد الجن.
الدار البيضاء: بما أن هناك منازعات بين الإنس والجن، حسب معتقدات العامة، فمن الضروري أن تتوافر محاكم تفصل بينهم، وتنصف المظلوم وتعاقب الظالم. وبما أن المحاكم موجودة، فمن الضروري أيضًا أن يكون هناك قضاة ومحامون يترافعون عن موكليهم، الذين يشكون "بطش" الجن.
محامي بجلباب
سلكنا الطريق نفسها التي يتبعها المرضى، فقادتنا أقدامنا إلى منزل في حي شعبي وسط العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء. لم تكن هناك حركة كثيرة، فالحي كان شبه هادئ، لا يكسر سكونه سوى أطفال يلعبون ويركضون في الاتجاهات كافة. لكن ما إن دخلنا المنزل، حتى صادفنا نساء يعشن لحظات ترقب، وهن يحاولن استراق السمع لمعرفة ما يحدث في غرفة بجوارهن، حيث يدور حوار مشحون بين فقيه ومريضة، يقول إنها تشكو من المس.
بينما كان الفقيه يصرخ بأعلى صوته، وهو يردد آيات قرآنية، في محاولة لإخراج الجني، كان شاب يقف بالقرب من الباب، و علامات التوتر الشديد بادية على محاياه. لم يستغرق الأمر منا طويلاً، حتى بدأ الشاب في سرد قصته مع هذا العالم الغريب، بعدما اطمأن لكون مراسل "إيلاف" أيضًا مريضًا ويبحث عن علاج.
يوضح جلال (تاجر)، "منذ سبعة أشهر وأنا أتردد على الفقيه من أجل الاستفادة من العلاج، لكنه في كل مرة يخبرني بأنني ما زالت أمامي محاكمة جديدة، وبعدها يمكنني أن أعود إلى حياتي الطبيعية".
تردد جلال، متزوج ولديه إبنة، طيلة هذه الفترة على أكثر من 10 أضرحة في عدد من المدن المغربية، آخرها ضريح "بويا عمر" في محافظة قلعة السراغنة (شمال مدينة مراكش وتبعد عنها بـ 80 كلم)، حيث يقضي فترات زمنية مختلفة تتراوح بين الثلاثة أيام أو أسبوع أو أكثر.
يقول جلال، الذي يتحدر من أسرة ميسورة، "أنا أعاني وساوس مستمرة، وترددت على أطباء وفقهاء، ولم أجد حلاً، وحاليًا أتبع طريقة التقاضي في المحاكم الغيبية، التي فرض عليها خلالها بالمكوث في المنزل، وعدم مغادرته، إلا عندما أريد الذهاب عند الفقيه فقط".
وأضاف "هذا الفقيه ينصب نفسه محاميًا، وهو يؤكد لي بأنني مسحور، ولو لم يكن لا يمكنه مغادرة الضريح، حيث سيجري سجنه إلى أن يأخذ (الإذن) من الولي الصالح"، مشيرًا إلى أن "رحلات التقاضي هذه كلفته ملايين السنتيمات". في تلك الأثناء، خرج الفقيه من الغرفة، وهو يرتدي جلباب فيه نقوش باللون الأسود، فطلب من الشاب الدخول، قبل أن تلتحق به والدته وشقيقته، التي تبين أنها مسؤولة في مؤسسة عمومية.
جلسة في المحكمة الغيبية
لم تكن الوصفة التي أعطاها الفقيه لمراسل "إيلاف" مختلفة عن تلك التي وصفت لمن سبقوه، إذ طلب منه العودة بعد ثلاثة أيام من أجل التوجه إلى مدينة مكناس، حيث ستعقد له جلسة من أجل التخلص من جنّ كافر. جاء تحديد مكان وموعد الجلسة، حسب الفقيه، بعدما رأى في الحلم ذلك، وقال له إنه لا يعرف ما إذا كانت ستعقد له جلسات أخرى أم لا.
طيلة رحلتنا إلى مدينة مكناس، استمعنا إلى مجموعة متنوعة من الأغاني الشعبية التي تقدس الجن، وتروي حكايتهم، وكأننا نعيش أجواء "حضرة". ما إن وصلنا إلى ضريح الولي الصالح الهادي بنعيسى في مدينة مكناس (تقع في شمال المملكة على بعد 140 كلم شرق العاصمة المغربية الرباط)، حتى استقبلنا أشخاص بأزياء تقليدية، وهم يرددون "الله يجيب العفو.. الله يبلغ المقصود".
لم تستمر الجلسة طويلاً، إذ ما إن دخل الفقيه حتى استسلم للنوم لمدة لم تتجاوز العشرة دقائق، قبل أن يخبرنا بأن الجلسة انتهت.
وقال الفقيه (ر.ح) "هذه الجلسة كانت قصيرة، لأنه في الحالات المستعصية يتطلب منا الأمر تنظيم ليلة (الحضرة)، بالذبائح، تحت طلب الجن، ليجري تخليص المريض من المس".
لا تكتمل "الرحلة العلاجية" الوهمية هذه، التي تكلف المريض من 1000 درهم يوميًا (حوالي 90 دولار) إلى ما فوق، دون التعريج على الولي سيدي علي بن حمدوش، ثم مكان يخصص للجنية عائشة، حيث شاهدنا عائلات تقوم ترش "ماء الزهر"، وتشعل الشموع، في حين يدخل آخرون إلى غرف صغيرة جدًا، فيطلب منهم الاستحمام بالماء البارد، رغم برودة الطقس.
يوضح الفقيه "أنا بمثابة محامي أترافع عن المرضى في المحاكم الغيبية، وأجنبهم السجن في الأضرحة، وأنت تعرف أن هناك العشرات من الأشخاص المسجونين حاليًا في (بويا عمر)، منذ سنوات، ولا يمكنهم مغادرة السيد إلا بعد أخذهم (الإذن) من الولي. وهو أمر لا يأتي إلا بتنظيم الليلة، وإذا خرج مريض دون إذن، يصاب بنوبات جنون وصرع، وقد ينتحر أو يؤذي شخص آخر".
وأشار إلى أن شخصيات تتردد عليه، ونظرًا إلى عدم تمكنها من حضور هذه الجلسات، فإنه ينوب عنها، لكن بشرط أن يعطوه صورًا شخصية لهم"، مبرزًا أن هناك مرضى دامت فترة علاجهم أكثر من سنة.
ضحايا بالجملة
من دخل هذا العالم يصعب عليه الخروج منه، إذ أكدت سعيدة (م)، موظفة، "بدأت بالتردد على هذا النوع من الفقهاء منذ شهور، وعندما قررت التوقف بسبب التكلفة المرتفعة اتصل الفقيه بي، وقال لي إن حالتي مستعصية، وسأعود للمرض إذا لم أزره في القريب العاجل".
وأوضحت سعيدة، لـ "إيلاف"، "خفت في البداية، وعدت لمواصلة العلاج، إلا أنني فوجئت بالفقيه يخبرني بأن هناك سحرًا جديدًا، ويجب أن نبدأ مجددًا من نقطة الصفر، فبدأت أشعر بأنني أتعرض للابتزاز، خاصة أنني أنفقت أكثر من 3 ملايين سنتيم، بحثًا عن علاج وهمي".
هذه النهاية لست مأساوية كتلك التي وجدت نساء متزوجات أنفسهن فيها، إذ جرى استغلال العديد منهن جنسيًا، على أساس أن ذلك كان بطلب من الجن الذي يلبسها، قبل أن تجد نفسها مضطرة إلى تلبية نزوات الفقيه، خوفًا من أن يفضح أمرها أمام زوجها.
غير أن بعض هذه العلاقات وصلت إلى ردهات المحاكم، إما بعد تقدم الضحية بشكاية إلى مصالح الأمن، أو افتضاح الزوج للأمر.
وقال عبد الباري الزمزمي، أحد أبرز علماء المنهج الوسطي في المغرب العربي، ورئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في فقه النوازل، وعضو مؤسس في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، إن "محاكم الجن من مظالهر الشعوذة والدجل"، مشيرًا إلى أنه "ليست لها أي سند في الشريعة".
وأوضح الزمزمي، الذي يشغل أيضًا منصب عضو مجلس النواب، في تصريح لـ "إيلاف"، أن "تعامل الإنس مع الجن من أبواب الشعوذة، والنصب، والاحتيال على أموال الناس"، مضيفًا أن "علماء لم يحسموا بعد في مسألة تسلط الجن على الإنسان، والدخول فيه".
يشار إلى أن عددًا من الفقهاء يتمكنون من تسويق أفكارهم ونشاطهم، في ظل انتشار الأمية، وقلة والوعي، إلى جانب خجل عدد من الأسر من التردد على الأطباء النفسيين.