ادب مترجم
الجوع والغثيان / قصة قصيرة للكاتبة النرويجية ترودة مارستين
علي سالم
الكاتبة النرويجية ترودة مارستين
Trude Marstein
ولدت هذة الكاتبة الشابة عام ١٩٧٣ وفازت بجائزة فيساس فيرست بوك ، التي تمنح لأول عمل ينتجة كاتب غير معروف مسبقاً
Vesaas First Book
عن كتابها
Sterk Sult, plutselig kvalme
الذي يعني جوع شديد ، وغثيان مفاجيء عام ١٩٨٨. تتناول كتاباتها حياة الشباب الصغار التي تبدو مغلفة من الخارج بستار من الأمان الظاهر والتبطل ، لكنها تخفي أيضاً قدراً معيناً من الألم وأنماطاً من المآسي التي تحيط بحياتهم وعلاقاتهم الإجتماعية . للكاتبة أيضاً مجموعة من الروايات والكتب الخاصة بالأطفال . فازت كذلك بجائزة سولت برايز وجائزة دوبلوغ
Sult Prize AND Doubloug Prize
الجوع والغثيان
واصل بعض التعساء ضخ صندوق الموسيقى بالنقود للإستماع الى موسيقاهم الفجة . كان كأسها فارغاً ، و في كأسة ماتزال بضعة سنتيمترات من الجعة . وكانت كلما تناولت كأساً ، تنتظرة حتى ينتهي من كأسة . كان كلا منهما يشتري جعتة بنفسة . ولم تعد تتذكر كم كأساً من كؤوس البيرة الكبيرة كرعا ، ثلاثة أم أربعة كؤوس ؟ . سألتة كم شربنا ثلاثة أم أربعة ؟ قال أنا تناولت ثلاثة فقط . كان يطرق على الطاولة بسبابتة ، محاولاً تتبع صوت الموسيقى ، دون تركيز . قال عندما دخلت كان في يدك كأس ، وهذا يعني إنك شربت أربعة كؤوس . ثم سألها هل تأتين غالباً الى هذا المكان ؟ شعرت بالإمتعاض رغم إعتيادها منذ زمن على روتينية هذا السؤال ، بوابة التعارف التقليدية ، لكن تكرارة هذة المرة جعلها تشعر بالضيق . وفكرت إنة ربما كان يسخرمنها بإستخدامة لهذة الكليشية الجاهزة للتعارف معها ، لكنة لم يكن كذلك . كان جاداً جداً ، وظل ينتظر منها جواباً على سؤالة . أضطرت للقول كلا ، ليس غالباً . لم تكن تشعر برغبة في شراء كأساً أخرى من الجعة ، لعدم كفاية نقودها ، ولم تكن ترغب في الجلوس ومواصلة الحديث معة ، فقد قيل كل شيء ، والحديث لم يأت بنتيجة . كان آخر ما سمعتة منة أنة كان يحب ضجة البار . وقالت لنفسها كوني رحيمة معة بعض الشيء ، لكن الموسيقى الهزيلة المزعجة كانت تحول دون تحقيق تلك الرغبة. كان أبسط مايمكن لها قولة هو هيا لنتناول كأساً أخرى من الجعة ، لكن أليس من الأفضل لوقالت هيا بنا لنغادر البار ، بدلاً من الجلوس هكذا والتحديق في كأس فارغ . أخيراً قالت وهي تنظر الية ، بصوت حاولت أن تضفي علية شيء من الحماسة غير المفتعلة ، هل تشرب كأساً أخرى ؟ ثم أشاحت بوجهها عنة بخفة . قال مبتسماً لاأعتقد إني قادر على شرب المزيد . ثم شرع يحدثها عن إبن أخية الذي تعلم القراءة بطلاقة في سن الرابعة ، قال إنة الآن في الثامنة ويستطيع قراءة كنوت هامسن . يالة من ولد بغيض . ضحكت ، لكن بصوت غير عال جداً ، وكانت ضحكتها عبارة عن إبتسامة عريضة ودفقتين من الزفير عبر أنفها . لم يشاركها الضحك . ولم تفهم لماذا كان يحجم عن تناول كأساً أخرى من الجعة . وتذكرت إن عليها غسل الصحون قبل النوم . قال هل تودين الذهاب للسينما غداً . قالت ربما ، لكني وعدت أبي بالزيارة . سأخابرك . جاء النادل لجمع الكؤوس الهامدة . نهضا وغادرا المكان . وقف خارج البار ودس يدية في جيبي سترتة ، وقال لا زال الوقت مبكراً . قالت نعم صحيح . سألها هل تحبين سماع الموسيقى ؟ يمكنك المجيء الى بيتي والإستماع لشيء من الموسيقى . ترددت قليلاً ، لكنها ، نظرت إلية
وإبتسمت وقالت دون تفكير تقريباً نعم . شرعا بالمسير . قالت لنأخذ تاكسي . قال كلا دعينا نمشي ، المكان ليس ببعيد . كانت ترتدي حذاءاً جديداً ، وقد بدأ الحذاء يأكل قدميها . كان يسير بخطوات طبيعية واسعة ، وكاد يتعرض لحادث دهس لأنة لم ينتبة عندما عبر الشارع . لكنة رغم خطاة العريضة لم ينقطع عن الحديث طوال الطريق الى شقتة . تحدث في البداية عن المسائل الإجتماعية ، وعن فوائد ومضار الهجرة ، وعن ضرورة تقنين أو عدم تقنين الدعارة وأخيراً عن نوعية رياض الأطفال النرويجية مقابل مثيلاتها السويدية . ثم بدأ يتحدث عن نفسة ، وعن الأعمال التي زاولها في الماضي ، وخططة المستقبلية . أما هي فكانت مبهورة الأنفاس ، تحاول مجاراتة في السير على نفس الإيقاع ، ولم تتعد أجاباتها مستوى الهمهمة الغامضة .
قال وهو يلتفت إليها مبتسماً أنت خجولة قليلاً قالت لا لست كذلك . قال لعلك غير معتادة على الكلام . شعرت بألم في كاحليها ، كما لو أن الفقاعات التي أحدثها الحذاء قد إنفجرت الآن . وقف فجأة أمام أحد الأبواب وقال هنا أسكن . كان قد أخرج المفتاح سلفاً وأمسك بة بيدة ؛ فتح الباب وولج الى الداخل قبلها . نظرت الى كتفية من الخلف وهما يرقيان السلم . كان يسكن في الطابق الرابع وراحا يصعدان دون أن تصدر منهما كلمة واحدة . وفكرت إن لة مؤخرة جميلة ، لكن بنطالة لم يكن يعد بالكثير ، وشعرت بأنها لم تكن متأكدة من رغبتها في النوم معة . عندما وصلا الردهة إنحنى وفك شرائط حذائها وقال أرجوك إخلعي حذائك . فتح أحد الأبواب وقال هذة غرفة النوم . شعرت بحاجة للتبول . كان السرير بالغ الضيق ، وبجانبة طاولة عليها مجلة . قال المكان غير مرتب قليلاً . إثنان أو ثلاثة قطع من الثياب كانت مرمية على كرسي . وقفت هناك وقد صالبت يديها على صدرها ، ونقلت ثقل جسدها على قدم واحدة ،ورأسها مرفوع الى الأعلى ؛ وأحست إن كنزتها قد إرتفعت قليلاً كاشفة بطنها . قالت بينها وبين نفسها أريد أن أتبول أولاً . كانت شراشف السرير مزينة بالورود ، وذات لون فاتح ، والأغطية مطوية بعناية . غادر الغرفة . تبعتة . قال هذة غرفة الجلوس . الجدران حمراء ، خمرية اللون . و ثمة نباتات خضراء ومظلات مصابيح صفراء مضفورة ، ونسخ من لوحات فان كوخ و مُنْكْ معلقة على الجدران . أشار الى جهاز التسجيل والى ثلاث رفوف معبأة بأقراص الموسيقى . قال أبدد الكثير من المال على الموسيقى . قالت لنفسها لنبدأ بالويسكي أولاً . ثم سألتة أين الحمام ؟ . إتجة مباشرة الى الحمام وفتح لها الباب ، ولوح بيدة داخل فضاء الحمام ، وكأنة يقوم بعرض محتوياتة عليها . كان يمكن لة أن يكتفي بمجرد الإشارة الية . شاهدت على حافة البانيو مرطبانات زجاجية مليئة بأملاح أستحمام وردية اللون ، وزيوت إستحمام داخل علب مدورة فاتحة الزرقة . وكان ثمة مناشف أيضاً ، وردية اللون منضدة بأناقة حسب الأحجام على الرفوف . قضت حاجتها ونظفت نفسها بعناية بورق تواليت رطب . كانت الأرضية لامعة ؛ ولايكدر صفائها شعرة واحدة ولا حتى ذرة غبار . جثت على ركبتيها وتطلعت تحت طاولة الحمام ؛ لكنها لم تعثر على أي شيء هناك أيضاً . شاهدت علب بخاخ للشعر ، وقوارير من الكريمات المرطبة على أحد الرفوف تحت المرآة .
عندما خرجت ، وجدت الموسيقى تنبعث من أحد أقراص الموسيقى في آلة التسجيل . وسألتة أي نوع من الموسيقى هذة، لأنها لم تسمع بها من قبل و شعرت بأنها كرهتها في الحال . رأت شهادة دبلوم معلقة على الجدار ، مكتوبة بحروف سوداء على ورقة خضراء بلون النعناع ؛ كانت الورقة قديمة وباهتة اللون . قرأت مامكتوب فيها . كان تأريخها يعود الى عام ١٩٧٩ وفيها دُون أسمة لفوزة بالمركز الثالث للتزلج على الجليد . قال لقد تغلبت على أخي ، كنا نتنافس في كل شيء . كان أكثر حظاً مني ، و أفضل مني عموماً في الدراسة وفي الرياضة ، . لكني تغلبت علية هذة المرة . وأشار الى الشهادة التقديرية قائلاً كان أخي مصاب بنزلة برد حينها ، لذلك جاء ترتيبة الخامس . ثم أزاح شيء ما من طاولة غرفة الجلوس وقال كان أكثر حظاً مني مع الفتيات أيضاً . كنت أكرهة . أقترب منها ، وبين يدية إناءاً فية ملعقة ويحتوي على شيء بني ، يشبة ربما عصيدة من الشوكولاطة . قال عندما مات أحسست بأني لم أكن أكرهة كما كنت أتصور ، لكني لم أتأثر كثيراً لموتة . عندما أنهى كلامة ذهب الى المطبخ ، وسمعتة يضع الإناء في المغسلة قبل أن يعود . قالت متى توفي أخيك ؟ قال في نيسان . ثم توجة الى الأريكة وأخذ يرتب الوسائد ، بطريقة نظامية ؛ واضعاً الوسائد المربعة في أماكنها بشكل دقيق ومرهف ، على جانبي الأريكة . بعد أن إنتهى من ذلك كلة دخل الحمام . وأحتارت هي ماذا تفعل ، هل تجلس على الأريكة ، أم تنتظر قليلاً ، أم تظل واقفة تبحلق بأقراص الموسيقى المكدسة على الرفوف ؟ . خرج من الحمام بسرعة وقالت لة دون تفكير تقريباٌ هل إنتهيت بهذة السرعة ؟ إجتازها ليجلس قبالتها على الجانب الآخر . قال كان ذوق أخي الموسيقي فظيعاً ، لكنة لم يكن يعترف بذلك أبداً . كنت موسيقياً و قد عزفت مع أحد الفرق الموسيقية بضعة سنوات ، لكني توقفت الآن . كان ثمة صورة فوتغرافية مبَروَزة بزجاجة مثبّتة فوق الصورة بقراصات تتكيء على شمعدان نحاسي على الرف الموجود فوق أقراص الموسيقى . وفيها ثلاثة صبيان مهزولين وشاحبين وأطرافهم ملتوية بشكل غير طبيعي يتمددون على ظهورهم فوق سجادة . قال الأوسط أبني . إنة مصاب بشلل دماغي ، ويعيش في ترومسو . لم أرة منذ ثمانية شهور . لكنة سيتعرف علي عندما يراني . وضع قدحين على الطاولة وقال هل ترغبين بقدح من الكولا ؟ قالت نعم ، أشكرك . ثم توجهت الى الأريكة لتجلس . دخل الى المطبخ وعاد بزجاجة كوكاكولا كبيرة وجلس على كرسي وثير ذو مساند للذراعين ، وملأ القدحين ، وسلمها واحداً رافعاً القدح الآخر عالياً بيدة ، لكنة لم يشرب ، بل ظل ممسكاً بة هكذاً و مصوباً نظراتة الى الجدار . كان ثمة باب مغلق في الجدار . سألتة مشيرة الى الباب ماذا هناك ؟ قال غرفة شقيقتي ، إننا نسكن نفس الشقة ، لكنها غير موجودة الآن . سألتة متى تعود ؟ قال لن تعود حتى يوم غد . قالت مبتسمة أفهم الآن بشكل أفضل معنى وجود بخاخات الشعر و كريمات ترطيب الجلد . قال أنا لا أؤمن بالعلاقات العابرة التي تدوم لليلة واحدة وتنتهي في الصباح . أحب أن أتعرف الى الفتاة جيداً قبل الشروع بعلاقة معها . نظرت الية ، لكنها لم تقل شيئاً . واصل الحديث قائلاً وهو ينظر اليها لاأدري إن كنت تشاطريني نفس الرأي ؟ أقصد بخصوص مسألة النوم معاً ؟ قالت بالطبع ، أوافقك الرأي . أنا أيضاً لم أفكر بهذا الموضوع . قال كلا، طبعاً . لكني سأكون سعيداً لو وافقتي على المبيت عندي الليلة . هزت رأسها بإبتسامة وتناولت رشفة من الكولا . قال لها مبتسماً أحب الحديث معك . قالت أنت وسيم . تناول الكولا بجرعة واحدة وأعاد القدح الى مكانة على الطاولة . ورأت من الطريقة التي أحنى بها ذقنة نحو صدرة بأنة كان يتجشأ بصمت .
علي سالم