سقوط الطبعة الأميركية من الشرق الأوسط الجديد!

سقوط الطبعة الأميركية من الشرق الأوسط الجديد!


عادل مالك *

خيّم على الاسبوع الأول من أحداث مصر صمت مريب، إذ لم تكن تُسمع إلاّ هتافات الأصوات المعارضة للنظام بضرورة رحيل الرئيس حسني مبارك «على الفور».

وفي اليوم التاسع من الانتفاضة بدأت ما يمكن تسميته بـ «الانتفاضة المضادة»، فنـزل أنصار النظام مستخدمين شتّى أنواع الأسلحة، بما فيها الخيول والجمال، وحدثت المواجهات الدامية، وسقط العديد من القتلى والجرحى، كان خلالها العالم بأسره يشهد على شاشات الفضائيات الاقتتال بين المصريين من مؤيدين للنظام ومعارضين له.

ومن يعرف حسني مبارك ومراسه الصعب كان يدرك أن رحيله بعد ثلاثين عاماً من الحكم والتحكّم بكل مفاصل حكم مصر لن يكون بهذه السهولة التي توقعتها المعارضة، فأقدم على اتخاذ «خطوات دستورية» بتعيين اللواء عمر سليمان نائباً للرئيس والفريق أحمد شفيق رئيساً للوزراء، عارضاً قيام حالة انتقالية وواعداً بأنه لن يترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة والمقرّرة في أيلول (سبتمبر) المقبل.

وهذا العرض أحدث انقسامات في صفوف المعارضين، بين من اعتبر أن الحركات الاحتجاجية حققت أغراضها بعدم استمرار نظام مبارك والتفاوض مع نائب الرئيس، وفريق آخر أصرّ على التظاهر في ميدان التحرير حتى «الرحيل الآن».

ودخلت واشنطن على الخط بسرعة مذهلة، فأوفد الرئيس باراك أوباما السفير الأميركي السابق في القاهرة فرانك ويزنر والتقى مبارك صباح الثلاثاء. وبعد نقاش متواصل على مدى ساعتين عرض السفير الأميركي على الرئيس المصري أن يذهب معه على متن طائرة خاصة الى الولايات المتحدة أو بريطانيا بعد أن يفوّض سلطاته الى نائبه عمر سليمان، وبهذا الشكل يتم «الرحيل المشرّف» للرئيس مبارك، الذي رفض العرض الأميركي، فيما كانت دوائر البيت الأبيض ووزارة الخارجية تصرّ على التخلي الفوري للسلطة «الآن يعني الآن» على حد تعبير الناطق باسم البيت الأبيض.

وبقطع النظر عمّا ستؤول إليه الأحداث الجسيمة في مصر يمكن التوقف عند النقاط الرئيسية التالية:

أولاً: كان حجم الجماهير الشعبيّة المعارضة والمتدفقة على ميدان التحرير مذهلاً بالنسبة للسلطات التي أصيبت بحالة من الارتباك الشديد. ويبدو أن قوات الشرطة المصرية استخدمت كل وسائل القمع ضد المعارضين والمعترضين على استمرار حكم الرئيس مبارك، وسقطت أعداد كبيرة من الضحايا بين قتيل وجريح.

ومنذ الساعات الأولى لانطلاق الانتفاضة الشعبيّة الكبيرة، طُرح العديد من التساؤلات ومنها: هل إن هذه الانتفاضة من النوع الذي يُخشى منه أم عليه؟ وكان قرار القيادة المصرية بالعمل على إجهاض هذه الثورة الشعبيّة وهو المخطط الذي بدأ في اليوم التاسع من الأحداث، ومع اقتحام عدد من مؤيدي النظام ميدان التحرير والمناطق المجاورة له، وحدثت اشتباكات بالأيادي والعصي والحجارة وما تيسّر من الأسلحة البدائية، قبل أن يتطوّر الأمر ليل الأربعاء – الخميس الى إطلاق كثيف للرصاص وأدّى الى سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا.

ثانياً: بلغ الوضع من الحراجة بشدّة وطأة المأزق، أن أصبح رحيل الرئيس حسني مبارك مشكلة، كما أن بقاءَه في السلطة مشكلة أيضاً. لكن ما عاب على المتظاهرين المعارضين عدم وجود وجوه قياديّة تتحدّث باسمهم، بل إن هذه «التعددية» نجح أنصار النظام في اختراقها والإيقاع بين أبناء الفريق الواحد، إضافة الى أن الوجوه التي برزت من خلال هذه الانتفاضة لم يكن بينها مَن يوحي بالثقة. ومنهم محمد البرادعي الذي طرح نفسه رمزاً للتغيير في مصر وأنه الخليفة المنتظر لحسني مبارك. وكان البرادعي «نجم المرحلة» على كافة أجهزة الإعلام العربيّة والدوليّة فيما كانت جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات أخرى تعارض هذا الطرح، وهذا ما أفقد الانتفاضة الشعبيّة بعض زخمها. إضافة الى أن تعطيل الحياة العامة في مصر كل هذا الوقت الطويل ارتدّ على المتظاهرين الذين لم يتوقعوا أن تطول هذه الأزمة الى هذا القدر، وهذا ما ولّد شعوراً لدى غالبية المصريين بضرورة إنهاء التظاهرات.

أمّا السفارات الأجنبية وفي طليعتها الولايات المتحدة وبريطانيا فقد حذرت جميع رعاياها بمغادرة مصر «على الفور»، متوقعة أزمة طويلة قد يتعذّر معها تأمين ترحيل هؤلاء الرعايا، مع احتمال عدم تمكّن مطار القاهرة من القدرة على استيعاب كل هذه الضغوط.

ثالثاً: كان على الرئيس حسني مبارك أن يدرك أن البقاء في منصب الرئاسة ما يزيد على ثلاثين عاماً ما يكفي لتأمين نهاية مشرّفة لفترة حكمه، لكن بعض الوزراء من مدّعي التأييد للرئيس وفي طليعتهم وزير الخارجية أحمد أبو الغيط كان يصرّ في الآونة الأخيرة على التأكيد بأن الرئيس مبارك «هو المرشح الوحيد للانتخابات المقبلة». ومثل هذه التصريحات أثارت حساسية الجماهير وحركت مشاعرهم.

وخلال احتشاد الجماهير الغاضبة في ميدان التحرير وقف أحد المتظاهرين أمام الكاميرا ليقول: «... أنا عمري ثلاثين سنة، ولا أسمع إلاّ باسم حسني مبارك من يوم ولادتي وحتى اليوم هو ما فيش غيرو»؟ ومثل هذا النوع من الشكاوي يعكس تعب الناس من رؤية نظام واحد ورئيس واحد طوال هذه الفترة.

رابعاً: لا شك في أنّ ما حدث في مصر زلزال شعبي ستكون له الكثير من الارتدادات. وأول من تبلّغ الرسالة كان الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، الذي أعلن عن عزمه عدم الترشح لولاية جديدة، وأنه ألغى دعوة البرلمان إلى الاجتماع لتعديل الدستور من أجل هذه الغاية. لكن ومع التقدير المطلق لـ «ثورة الياسمين» في تونس، فإن مصر ليست دولة عربية عاديّة. فهي الأكبر وقلعة العروبة الصلبة منذ ثورة الضباط الأحرار العام 1952 وحتى اليوم. لكن الأمر المؤكّد أن «ثورتي الفل والياسمين» في تونس ومصر قد وضعتا الشرق الأوسط أمام منعطف بالغ الدقة والخطورة، ويتوقع البعض أن تكون المرحلة الآتية حافلة بالاضطرابات والقلاقل ولو لأسباب مختلفة يختلط فيها المطلبـي والمعيشي مع القومي والسياسي، فيما يرى البعض الآخر أن فترة من الهدوء سوف تعقب العواصف التي هبّت من تونس ومن مصر. وفي الإطار العام لما جرى في مصر وتونس، تبرز حقيقة راهنة وهي أن الشرق الأوسط الجديد الذي يولد بشكل تدريجيّ ليس ذلك الشرق الأوسط الذي نادت به السياسة الأميركية خاصة خلال السنوات العشر الماضية. وقد أكّدت الولايات المتحدة مرّة جديدة أنها أول من يدعم بعض الأنظمة في المنطقة، وأوّل من يسحب البساط من تحت أقدام بعض الحكّام.

ومثل هذا الطرح يدعو الى التوقف عند رياح التغيير في المنطقة العربيّة ومن وحي «شتاء الغضب» الاستنتاج بأن العديد من التطوّرات التي تشهدها المنطقة مرده الغباء الذي تمارسه السياسات الأميركية، وهذا ما يسجل لصالح دول الممانعة التي تعمل بكل كد وجد على توظيف أخطاء السياسة الأميركية.

وإذا كانت الولايات المتحدة، الدولة الكبرى في العالم، قادرة على استيعاب التكلفة الباهظة لممارساتها في المنطقة، وهي قادرة على تحمّل ذلك، لكن ما جرى يجب أن يشكل ناقوس الخطر بالنسبة للمراهنين على مواقف الدعم الأميركية، وعندما يكون الصغار لقمة سائغة بيد الكبار في واحدة من دورات «لعبة الأمم». وفي العودة الى ما تشهده «هبّة النيل» في هذه الأيام المشهودة من تاريخها المعاصر، لا بد من الاشارة الى موقف الجيش المصريّ الذي يُجمع المصريون على تقديره واحترامه. لكن لا يمكن لهذا الجيش أن يبقى في موقع المتفرّج من مقعد الحياد السلبي، بل هو المرجعية الصالحة لاستعادة الأمن والطمأنينة، بعيداً عن لعبة التناحر والتنافس على السلطة.

إن مصر التي تبحث جماهيرها عن زعيم يحمل آمالها وآلامها وأحلامها، لم تجد سوى العودة الى رفع صور جمال عبد الناصر، كأحد مظاهر الحنين الى الحقبة الناصرية، مع التذكير بأخطاء تلك القيادة. لكن هذا التيه الذي يعانيه الشارع العربي بشكل عام ينبئ بتطورات آتية أسرع وتيرة وتأثيراً مما توقعه الكثيرون من متابعي السياسات والمواقف العربية.

إن شرق أوسط جديداً سيبدأ بالتكوين وبالتعبير عن نفسه، لكن الولادة الوطنية والقومية الكبيرة لا تحدث بسهولة. وفي فترات المخاض يحدث الكثير من الصعوبات. وفي المحصّلة الأخيرة: إن تونس كانت قبل زين العابدين بن علي وهي باقية بعده، وكذلك فإن مصر كانت قبل حسني مبارك وهي باقية بعده. إنها مرحلة الانقلابات الشعـبيّة التي قضت على صورة الانـقلابات العـسكرية على الطريقة العربية.

... لأن الديموقراطية هي أصعب بكثير من الديكتاتورية. لقد سالت الدماء المصرية على ضفاف النيل... هذا ليس عنواناً لرواية لأغاتا كريستي بل حقيقة واقعة. وفي الكلام الأخير في مصر أكثر من مأزق: أزمة على الحاضر وأزمة خوف من المستقبل الآتي.

* إعلامي لبناني