الثورات العربية الحالية تؤذن لحقبة ثالثة رئيسية منذ نهاية العثمانيين
سقوط الامبراطورية الأميركية الخفيّة في الشرق الأوسط
صلاح أحمد من لندن
بات من الواضح أنّ العالم اليوم يشهد سقوط الأنظمة العربية التي جثمت على صدور شعوبها طويلا، فالولايات المتحدة سعت للربح على حساب الأخلاق فاختارت أن تحكم المنطقة عبر طغاة فاسدين وحشيين وفرت لأنظمتهم السلاح والتدريب والمشورة.
لندن: الإمبراطوريات قد تسقط بسرعة البرق كما يعلمنا التاريخ. وعلى سبيل المثال فقد بدت اسبانيا، بنهاية القرن السادس عشر، قوة لا تقهر.
وبعد 25 سنة صارت مفلسة تجثو على ركبتيها في حضرة القوتين البحريتين الجديدتين بريطانيا وهولندا. والإمبراطورية البريطانية التي كانت الشمس لا تغرب عن أراضيها في 1930 لفظت أنفاسها الأخيرة بعد ذلك بعقدين ونيف.
واليوم يحق لنا أن نسأل عما إن كانت أميركا، التي بدت القوة الأعظم على الإطلاق قبل عشر سنوات، تسير على الدرب نفسه كما يقول بيتر اوبورن، كبير المعلقين السياسيين في «تليغراف» البريطانية.
ففي خلال السنوات الثلاث الماضية وحدها عانت الولايات المتحدة من أزمة 2008 المالية التي ستتواتر آثارها إلى زمن لا يُعلم مداه. وبرغم أن الشرارة تمثلت في انهيار سوق العقار، يظل الخلل في التركيبة الاقتصادية الأميركية عموما هو برميل البارود.
الدمار المشترك
لسنوات الآن، ظلت أميركا عاجزة عن تمويل مشاريعها الداخلية والتزاماتها الخارجية بدون الاستعانة الهائلة بالصين منافستها الرئيسية. وهذه الأخيرة نفسها بحاجة لأن تساعد أميركا بسبب حاجتها للتصدير الى السوق الأميركية وبالتالي تفاديها أزمة مالية خاصة بها.
وهذا ترتيب يُصنّف في خانة «الدمار المشترك» الذي حال دون اندلاع الحرب بين اميركا وروسيا.
ورغم أن هذا الترتيب مهدد بالزوال بسبب دعائمه الهشة، فقد أخفق الرئيس اوباما في فعل ما يلزم لتعزيز هذه الدعائم. وركن، بدلا عن ذلك، للتشبث بنفس السياسات القديمة الفاشلة التي تسببت بالمشكلة في المقام الأول وهي: مال سهل لكنه مُقترض. ومن المحتم أن أميركا ستضطر لإجراء تعديل هائل سواء في مستواها المعيشي بالداخل أو في التزاماتها الخارجية.
وهذا مهم لأن المصالح الأميركية الدولية تتعرض لتهديد غير مسبوق. فمنذ العام 1956، عندما سحب وزير الخارجية الأميركي دعم بلاده لبريطانيا وفرنسا في أزمة السويس، صار العالم العربي واقعا تحت الهيمنة الأميركية. وفي بادئ الأمر وعدت اميركا بقبول الاستقلال وتقرير المصير لدوله. لكن هذا لم يدم طويلا لأن واشنطن اختارت ان تحكم المنطقة عبر طغاة فاسدين وحشيين وفرت لأنظمتهم السلاح والتدريب والمشورة.
رهان خاسر
أثبتت الأسابيع الأخيرة أن حقبة هذه السياسة - المربحة ولكن المفتقرة للأخلاقية - تأتي الى ختام. ومن المفارقات أن نظام العقيد القذافي، الذي يسفك الدماء بشكل بشع وهو يحتضر، لم يركن إلى البقاء بعيدا عن دائرة النفوذ الأميركي عندما كان قادرا على ذلك. لكنه قرر الانضمام إلى ركب جورج بوش وتوني بلير بدون أن يعلم أن هذا الركب نفسه يرقد على فراش الموت.
وفي واشنطن تظاهر اوباما بأن هذا لا يحدث وراح، بدلا عن هذا، يشدد على أن انتفاضات الشعوب العربية سعي الى الديمقراطية على الطراز الأميركي وانتصار لوسائل الاتصال الغربية الحديثة مثل «فيس بوك» وتويتر».
وقال معلقون متعاطفون معه إن العالم العربي يشهد تكرارا لما حدث في أوروبا الشرقية العام 1989 عندما انتفضت على الطغيان السوفيتي.
الواقع ان هذا التشبيه صحيح. فمثلما شهد ذلك العام سقوط الإمبراطورية الروسية في شرق أوروبا، يبدو أن 2011 يشهد إسقاط العديد من الأنظمة «الأميركية بالوكالة» في العالم العربي. وهذا يعني أن المستقبل قد يأتي بما لا تشتهيه واشنطن.
ولا يظنن أحد أن «توبتر» هو الوقود الذي حرك انتفاضات العرب لأن قسما هائلا منهم أمّي لا يقرأ أصلا.
وقود الانتفاضات العربية هو البطالة والفقر الجماعيان والشعور بالغثيان إزاء الفرق الشاسع في توزيع الثروة وإزاء حجم الفساد الهائل الماثل أمامهم. ومن السابق للأوان أن يتكهن المرء بما سيحدث في هذه المنطقة، لكن من غير المرجح أن تنظر هذه الشعوب التي حررت وتحرر نفسها الى واشنطن ونيويورك باعتبارهما النموذج الاقتصادي المحتذى.
السؤال الكبير
السؤال الكبير هو ما إن كانت أميركا ستقبل بوضعها المتدني الجديد أم ستهتاج وتركل وترفس كأي إمبراطورية أخرى تقاوم إسدال الستار على سطوتها. وفي هذا الصدد فإن ردة فعل البيت الأبيض حاليا لا تبشّر خيرا. وقد تجلّت الحساسية الأميركية في قضية ريموند ديفيز، عميل «سي آي ايه» الذي أردى باكستانييْن قتيلين بالنار في لاهور.
فوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تحاول إخافة إسلام اباد وإجبارها على منح هذا الجاسوس الحصانة الدبلوماسية.
وهذا تصرف لا يصدقه العقل لأنه يظهر بجلاء أن واشنطن تعتبر نفسها فوق القانون.
ولو اختار الرئيس آصف زرداري، الذي ينظر إليه الباكستانيون باعتباره دمية أميركية لا أكثر، أن ينصاع لمطلب كلينتون فالأرجح لحكومته أن تسقط بين عشية وضحاها.
وخذ قرار الرئيس اوباما الاسبوع الماضي استخدام الفيتو ضد قرار مجلس الأمن إدانة المستوطنات الإسرائيلية رغم علمه هو وإداراته أنها غير قانونية. وأن يتخذ اوباما قرارا كهذا في وقت يشتعل فيه العالم العربي بثوراته وانتفاضاته لا يمكن أن يصنّف الا في خانة الجنون.
نموذج حماس
المشكلة الكبرى هي أن واشنطن تريد ديمقراطية بشروطها هي. وأفضل مثال لهذا معارضتها لانتخاب حكومة حماس في 2006.
وقد كان لتلك اللحظة أن تكون بارقة أمل كبير في عملية السلام بالشرق الأوسط إذ كانت تعني أن بوسع حكومة منتخبة ديمقراطيا أن تكسر دائرة العنف. لكن أميركا ترفض مجرد التعامل معها مثلما رفضت التعامل مع الإخوان المسلمين في مصر ومع تطلعات إيران الإقليمية المسنودة بالمبرر.
ويمكن تقسيم تاريخ العالم العربي منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية في 1922 الى حقبتين: الأولى الحكم لاستعماري البريطاني والفرنسي، والثانية الإمبراطورية الأميركية الخفيّة بعد الحرب العالمية الأخيرة. والآن نشهد مولد حقبة ثالثة تتحرر فيها الشعوب العربية من التبعية.
ومن شبه المؤكد هو أن هذه الشعوب لن تختار السير على دروب تمهدها لها أميركا أو توصيها بها. وكل الدلائل المتوفرة الآن تشير إلى أن اوباما ووزيرة خارجيته عاجزان عن فهم هذا الأمر أو طبيعة الأحداث الجارية الآن.
خيبة
بوسع بريطانيا، بفضل خبرتها الإمبراطورية، أن تقدم لأوباما وكلينتون شيئا من النصح. لكن ديفيد كامرون (رئيس الوزراء البريطاني)، وهو حديث عهد بالسياسة الخارجية، لم يفعل شيئا من هذا سواء بالقول أو العمل الذي يحتذى.
وجولته الأخيرة على العواصم العربية بحاشية ضخمة من تجار السلاح تعني استمرار السياسات القديمة التي سادت خلال السنوات الخمسين الماضية.
وحتى خطاباته التي ألقاها على العرب ما هي إلا مجرد تكرار لخطابات سلفه توني بلير المشحونة بالمراوغة والنفاق. وهكذا يختار كامرون بنفسه أن يسير على طريق الجهل بالمتغيرات الهائلة على المسرح السياسي الدولي.
والواقع أن الروابط بين بريطانيا وأميركا في مجالات الدفاع والأمن والسياسات الخارجية لصيقة بحيث صار مستحيلا على أي حكومة في لندن أن تتصرف مستقلة عن واشنطن. وكلما تعرضت لمساءلة الإعلام، قالت إنها تمارس نفوذها على أميركا «خلف الكواليس» بدلا من تحديها علنا.
لكن هذا أيضا أسلوب فاشل. وعلى سبيل المثال فنحن نعلم أن وليام هيغ (وزير الخارجية البريطاني) حاول جاهدا إقناع هيلاري كلينتون بالامتناع عن استخدام الفيتو ضد إدانة المستوطنات الإسرائيلية لكنها تجاهلته.
على بريطانيا، إذن، ان تتعلم الوقوف على قدميها وأن تتحلى بالشجاعة في صداقتها مع أميركا لأن العالم يتغيّر بأسرع مما نتصور.