"أود أن أكون مصرياً" للروائي المصري علاء الأسواني:
رؤية نقدية ساخرة
تشكل المجموعة القصصية والتي تُرجمت حديثاً إلى الألمانية تحت عنوان "أود أن أكون مصرياً" قراءة نقدية أخرى من الروائي المصري علاء الأسواني للواقع المصري بكل تعقيداته وتشعباته. أنغيلا شادر في قراءة نقدية لهذا العمل الأدبي.
ولد الأسواني في عام 1957 ودرس طب الأسنان في مصر والولايات المتحدة الأمريكية، وفي نهاية الثمانينيات بدأ في كتابة أعماله الأدبية التي شكلت رواية عمارة يعقوبيان ذروتها
الطبعة الأولى من الكتاب لم تتجاوز الثلاثمائة نسخة، وكانت مطبوعة على نفقة المؤلف. وبالتأكيد على نفقته أيضاً وزعها بالمجان على النقاد والأصدقاء. مَن يضع قدمه على المسرح الأدبي للمرة الأولى بمثل هذه البطاقة التعريفية فإنه – هكذا يخمّن المرء – سيبقى إلى الأبد منفياً في جحيم أولئك الذين يجدون أنفسهم مجبرين على إشباع طموحهم الأدبي عبر المطبوعات الخاصة وعبر تشجيع دائرة صغيرة من المريدين.
المجموعة القصصية التي نعنيها هنا – والتي تُرجمت حديثاً إلى الألمانية تحت عنوان "أود أن أكون مصرياً" – هي العمل الأدبي الأول لطبيب الأسنان القاهري علاء الأسواني الذي نشر بعد ذلك بنحو عشر سنوات روايته "عمارة يعقوبيان" التي جعلته أكثر الكتاب المعاصرين نجاحاً في المنطقة العربية. بتلك الرواية تحوّل الأسواني لأكثر من سبب إلى أسطورة؛ إذ إنه من ناحية قام بتسليط الأشعة السينية على تلك العمارة التي أعطت الرواية اسمها، ففضح بذلك خفاياها، كما عرض صورة مقطعية لمصائر المصريين، وهي صورة يفضل السياسيون وحُماة الأخلاق في البلاد إخفاءها وراء أسوار حصينة، من ناحية أخرى فإن الكاتب ما زال يقسم أوقات عمله بصرامة بين المكتب والعيادة.
السم المرير
"لا يتردد علاء الأسواني، سواء في كتاباته الأدبية أو الصحفية في جرائد المعارضة المصرية، في إعلان رأيه بصراحة إذا ما تعلق الأمر بنقد الأوضاع في وطنه"
"لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً" هي إحدى العبارات الشائعة التي أطلقها الزعيم القومي مصطفى كامل باشا، وهي تتصدر قصة "أوراق عصام عبد العاطي" التي تعتبر النص الأهم في هذه المجموعة القصصية المبكرة. عندما يبدأ المرء قراءة القصة، فسرعان ما يجد أن الراوي بضمير المتكلم يطلق هجاءً مريراً ضد كل ما هو مصري. لا عجب إذن أن يستولي الذعر على السادة في الهيئة المصرية العامة للكتاب، حيث تقدم علاء الأسواني بمخطوطته عام 1989، مثلما نقرأ في المقدمة التي كتبها المؤلف موّثقاً فيها باستمتاع المفاوضات العبثية التي جرت بينه وبين موظفي الهيئة المذكورة. وهنا يكمن أيضاً سبب نشر المجموعة بدايةً على نفقة المؤلف، بل وحتى بعد النجاح الكبير الذي حققته "عمارة يعقوبيان" فقد أعاد ناشر مصري كبير المجموعة مشمئزاً إلى مؤلفها، لأنه كان يخشى أن يتسبب مضمون المجموعة القصصية في الزج به إلى غياهب السجون. غير أن المجموعة القصصية الأولى للمؤلف ترقى بكل سهولة من ناحية الجودة إلى مستوى روايته الناجحة.
لا يتردد علاء الأسواني، سواء في كتاباته الأدبية أو الصحفية في جرائد المعارضة المصرية، في إعلان رأيه بصراحة إذا ما تعلق الأمر بنقد الأوضاع في وطنه، رغم ذلك لن ينسب أي قارئ حصيف تلك الآراء الواردة في "أوراق عصام عبد العاطي" إلى المؤلف نفسه، مثلما فعل آنذاك موظفو الهيئة المصرية العامة للكتاب. يستخدم المؤلف شخصية عصام عبد العاطي نموذجاً ليعرض من خلاله كيف يغرق شخص في سموم عجرفته بسبب عجزه الإنساني الفادح، وكيف يجرح دون تفكير المقربين منه وهو متشبث بشعوره بالتفوق الفكري، ودون أن يستطيع إنقاذ نفسه في النهاية من الوقوع في الهاوية. يفعل الأسواني ذلك دون الاستخفاف بالشخصية الرئيسية، بل إنه يُظهر تعاطفه معها. ذات مرة يقول البطل معترفاً إنه لا يواجه صعوبة في هضم الأفكار المعقدة، غير أن التعامل التلقائي البسيط مع الناس هو ما يحيره ويشعره بضعفه. ولهذا يختار الهروب إلى العزلة في البرج العاجي، أما الثمن الذي يدفعه مقابل ذلك فهو افتقاده لكافة المشاعر الإنسانية، وهو ما يجعله يقارن بين مواطنيه وبين الصراصير في البالوعات، ويقارن أمه المريضة بالسرطان بفأرة مذعورة من فئران التجارب. وفي نهاية المطاف يسقط البطل من برجه العاجي فيهوي إلى قاع الجنون.
ناقد متعاطف
إلى جانب "المخطوطات" تحتوي المجموعة على ست عشرة قصة أقصر بكثير من القصة الأولى، وفيها يرسم الأسواني صورةً لمظاهر الضعف لدى مواطنيه، تارةً بريشة حادة، وتارةً أخرى بيد عطوفة ولكن دون الوقوع في العاطفية. في بعض الأحيان تتقابل أيضاً الطريقتان – مثلاً عندما ينتاب رجلا بدينا الضعف الإنساني الذي يُشعره بالجوع القارص وهو جالس على فراش الأب المحتضر في شهر رمضان. أما عشق الذات والنفاق الذي يفضح نفسه في الرسالة الموجهة إلى "أختي العزيزة مكارم" فلا يجد رحمة أو شفقة لدى الكاتب؛ من ناحية أخرى فإن الأسواني يصور طقس العنف الليلي – الذي يُرتكبه شاب على نحو قسري تقريباً معاقباً به الزوجة المتهمة بالخيانة والتي تتحمل ذلك العنف دون أن تذرف دمعة واحدة – بنظرة باردة جامدة تتوافق مع وحشية الأحداث الخالية من أي معنى.
وبالطبع يتناول المؤلف بسخرية لاذعة آليات السلطة في نظام دولة متكلسة ينخر الفساد والمحسوبية في عظامها – مثلاً عندما يُطرد رجل فقير بسبب أمر إداري مجهول المصدر من فردوسه حيث يقدم الشاي للناس، أو عندما يجد طبيب شاب نفسه في بداية حياته المهنية عرضةً لتعسفٍ تحركه الغيرة وعداوات منهجية متعددة.
غير أن الفارق بين المؤلف وبين بطله عصام عبد العاطي يتجلي في النصوص النقدية الساخرة: هنا يتضح الذكاء الإنساني الذي كُتبت به القصص، الذكاء الذي لا يتحصن خلف مظاهر فكرية، بل يتألق تحديداً من خلال التعامل التلقائي البسيط مع الناس. يستطيع الكاتب علاء الأسواني أن يبرز مخالبه عندما يتطلب الأمر ذلك - وهو ما برهن عليه في ذلك الرسم الكاريكاتوري اللاذع الذي صور به في روايته "شيكاغو" الرئيس المصري حسني مبارك – غير أنه يستطيع طواعية أن يتحلى بالمشاركة الوجدانية مع موظف صغير في وزارة التخطيط امتلأت نفسه بالحنق بسبب قميصه المقزز الرث الذي يفسد عليه يوم عمله.
أنغيلا شادر
ترجمة: صفية مسعود