حول علاقة الشاعر الألماني هينريش هاينه بالثقافة العربية والشرق الإسلامي:
الأندلس والمعلقات
مدخل معهد هاينريش هاينه في دوسلدورف
تحتفل ألمانيا هذه السنة بمرور مائة وخمسين سنة على وفاة هينريش هاينه. وتأثر هذا الشاعر الرومانطيقي في بعض أعماله المسرحية وقصائده بالثقافة العربية. مقال بقلم الباحث منير الفندري
في شهر شباط/فبراير من عام 1856 مات الشاعر الألماني هينريش هاينه، في سـنّ لم تكـتمل الستين (ولد بمدينة دوسلدورف سنة 1797)، تاركا أثرا أدبيا ثريّا، يعـدّ من أجود ما كـتب باللغة الألمانية وأرقه.
وقد تزامن تفـتح قريحة هاينه الشعرية وصقـل موهبته الإبداعية في بدايات القرن التاسع عشر مع وجود المدرسة الرومنطيقـية الألمانية في أوج عطائها فـتأثر بجوانب من نزعتها وتتلمذ على أيدي بعض منظريها وتبنى أوجها من مشاربها من حيث الأشكال والمضامين.
إلا أنه لم يستسغ ولم يرتح لما رأى فيها، في تلك الفترة ــ الموالية للثورة الفرنسية وحروب نابليون ــ من تعصّب قومي وجيشان ديني مسيحي وما تفـرس فيها من رجعية في مواقـفها السياسية.
فلم يلبث أن تحرّر من سحرها وتجاوز تأثيرها الضيق فجاء شعره موحيا بالرومنطيقية في ظاهره ومترفعا عنها في باطنه، وتطور في أسلـوب مستحدث، سلس طريف، أصاب ذوق أهـل العصر وتكرّست به شهرة هاينه الشعرية وشعـبيته. وقد جمعت قصائد الشباب هذه في ديوان أول، صدر سنة 1826 بعـنوان "كـتاب الأغاني"(Buch der Lieder)، ظل إلى اليوم أشهر أعمال هذا الشاعر.
الأندلس في مسرحية تراجيدية
ومن أعمال هاينه الباكرة أيضا محاولات في الفـنّ الدرامي أسفرت عن مسرحيتين، من شأن إحداهما أن تشدّ انتباه القارئ العربي بشكل خاص. إنها مسرحية "المنصور" التي تقـوم على حدث سقوط غرناطة، آخر قلاع الإسلام بالأندلس، في أيدي النصارى.
وهي تصور مأساة فتاة وفتى من أهالي غرناطة المسلمين تعلقا ببعضهما منذ الصغر وتفرق شملهما قسرا من جراء انتصار المسيحيين وفرضهم على المغلوب التنصر أو مهاجرة الوطن الحبيب.
وتستهـلّ المسرحية بعودة "البطل"، المنصور بن عبد الله، من مهجره بالبلاد العربية، يحفزه الحنين إلى أرض الآباء ومهد الطفولة والشوق المستعر إلى رؤية الحبيبة، سليمة بنت علي، فـيلفـيها قد نصّرت وعلى أهـبة التزويج من مسيحي ماكر طمع في ثروة أبيها.
ويهلك العشيقان في الختام في محاولة فرار. ويرفع الستار على المنصور في أرجاء قصر أبيه المتروك المقـفر في مناجاة حزينة من استذكار الماضي والتحسر على ما كان، توحي بعادة الوقوف على الأطلال في الشعر العربي القديم، وليس هذا من المقارنات الغريبة المستبعدة كما سنرى.
باعتراف هاينه لبعض أصدقائه فإنه لم يدخر جهدا للتقصّي والبحث في النصوص حتى يضفي على عمله الاستشراقي هذا ما يجدر به من الأصالة والمصداقية، لا من حيث الواقع التاريخي فحسب، بل وكذلك من حيث طبع شخصياته العربية المسلمة وسجاياهم "الشرقية".
وتأكد لنا ذلك بضبط ما اعتمد المؤلف الشاب من مصادر ومراجع في تلك الفـترة، أي في حوالي 1820، وهو طالب بالجامعة. وثبت لنا أنّ ما بذله من عناية في هذا الصدد تجاوز ما كان لو أراد لمسرحيته مجرد مسحة استشراقية سطحية، أو "قـناع" مموّه كما ذهبت إليه طائفة من الباحثين شددوا في التأويل على مشاعر المؤلف اليهودية.
ولا يصمد هذا أمام قراءة مجردة فاحصة. فكأن هاينه انبهر انبهارا من جراء تعمقه في البحث والتوثيق بالحضارة العربية الأندلسية فجاءت مسرحية "المنصور" الشعرية تطفح إعجابا بهذه الحضارة وما نجم عنها من ازدهار في جزء من أجزاء أوروبا وبالتحسر والرثاء على أفـولها والتنديد بأسباب انهيارها.
المعلقات و"كتاب الأغاني"
ولا شكّ أن زاده اهتماما وولعا بها، وتأثرا بمآلها المأسوي، ما استنبط واستجلاه بالدراسة من ارتباط مصيريّ بين مسلمي الأندلس ويهودها، في المجد والازدهار طيلة قرون ثم في المحنة والابتلاء في النهاية على أيدي المنتصر المسيحي وكنيسته المتزمتة.
وفضلا عن المصادر التاريخية ركن هاينه إلى أخرى أدبية واستنار بها بغية استيعاب "الروح الشرقية" ودعم الصبغة العربية والإسلامية لشخصيات المسرحية في تصورهم ومنطقهم وأسلوب خطابهم. ومن أهم هذه النصوص المعتمدة ترجمة ألمانية للمعلقات السبع (1802) أشفعها صاحبها، هارتمان (Anton Th. Hartmann)، وأثراها بتعاليق مسهبة وإحالات شتى للتعريف بالشعـر العربي القـديم وظروف عيش أصحابه.
وقد تأكـّدت لنا هذه الصلة بين هاينه والمعلقات بفضل مقطع شعري أهداه بعض أصدقائه سنة 1820 وذيله بلفظة "عربي"، فاتضح لنا أنه مستوحى من قصيدة لسلم بن أبي ربيعة استمدها هارتمان من ديوان الحماسة لأبي تمام للدلالة على النزعة الحسية في الشعر العربي القـديم. ومما توقف هارتمان عنده وأسهب في توضيحه ظاهرة الوقوف على الأطلال؛ فلا غرو إذن أن نربط بين المشهد الافـتتاحي لـ "المنصور" وهذه الظاهرة المميزة لمطلع القصيد "الجاهلي".
ولعلنا لا نجازف إذا ذهبنا إلى حدّ افتراض انعكاس هذا التأثير على بعض أشعار "كتاب الأغاني"، لاسيما في بابه الموسوم بـ"العودة إلى البيت" (Die Heimkehr) حيث المقاطع المرقمة من 16 إلى 20 تذكر بديهيا بمطلع المعلقات لكل من زهير ولـبيد وعنترة، كما استوعبها هاينه من خلال ترجمة هارتمان.
ومما يدعم الافتراض، أن المقاطع الشعرية المشار إليها نشأت تحت تأثير المعلقات مباشرة، رسالة طريفة بتاريخ منتصف أفريـل 1822 كتبها هاينه في ساعة ضجر وقنوط ، يشير فيها إلى مجموعة القصائد العربية الشهيرة بقوله:
"حالما يتحسن وضعي الصحي سأغادر ألمانيا وأرحل إلى البلاد العربية حيث سأعيش عيش البدو الرحل وأشعر بنفسي إنسانا في أتمّ معنى الكلمة (...) وأنظم شعرا في جمال المعلقات وأجلس فوق الصخرة المقدسة التي جلس عليها المجنون وأحنّ إلى ليلى".
الحب العذري
ويودي بنا هذا التصريح إلى عنصر آخر ذي صلة بالتراث الثقافي العربي شدّ هاينه وألهمه، وهو موضوع مجنون ليلى والحبّ العذري. ولا تستغرب من قـرأ "المنصور" ورود الإشارة إلى العاشقـين الشهيرين في الرّسالة المذكورة، إذ نرى المنصور في الختام يلقى بنفسه من فوق صخرة محتضنا سليمة ومتوهما في هذيان جنوني أنه المجنون ينجو بليلاه من عالم الأشرار إلى آخرة يستتب لهما فيها الهناء.
قبر هينريش هاينه في دوسلدورف
وكان اطلاع هاينه على قصة العشق الشهيرة هذه عبر الأدب الفارسي الذي حظي آنذاك بشديد اهتمام الاستشراق الألماني (من ذلك ترجمة ديوان حافظ الشيرازي سنة 1813)، فكان من نتائج ذلك، كما هو معروف، أن ألف غـوته (Goethe) عمله الإبداعي الشهير "الديوان الغربي الشرقي" ( وكان لظهوره سنة 1819 صدى بينا في فكر هاينه وأدبه، يطول فيه الحديث).
وقد نقلت رواية مجنون ليلى كما وردت عن عبد الرحمان جامي فكانت (عبر ترجمة أ.ت. هارتمان، 1808) من المصادر التي توفرت لمؤلف "المنصور" فيما يتعلق بالصور المجازية والتشابيه الاستشراقية وغير ذلك من الاستعارات التي تفـيض بها حوارات المسرحية بصفة ملحوظة، لقـناعة هاينه بشاعرية الإنسان العربي الأصيل وحيويته العاطفية وميله إلى الغلوّ البلاغي.
ولم تنته علاقة هاينه بموضوع "الحبّ العذري" بتجاوزه مرحلة "المنصور" في طور الشباب بل نجده يعود إليه بعد ربع قرن ليصوغ قصيدا من أعذب قصائده سماه "العذري".
ألف ليلة وليلة
وهناك من التراث العربي أثر يكاد لا يغيب ذكره بصفة أو بأخرى في كامل أعمال هاينه من البداية إلى النهاية، ألا وهو "ألف ليلة وليلة". فكم مرة باح بافتتانه بـ"الحكايات العربية التي نقلها لنا غالان" وأشاد بجاذبيتها وتأثيرها فيه منذ الطفولة.
وينعكس هذا التأثير باعترافه في الصورة التي تكونت في مخيلته "الغربية" ورسخت حول مفهوم "الشرق" كعالم افتراضي مغر، يفـيض بالعجائب والغرائب ويسطع بالألوان الخلابة ويعبق بروائح الطيب، وتستبيح للإنسان فيه ما تحرمه التعاليم المسيحية وتنهي عنه التقاليد "البرجوازية" من متع الأحاسيس ولذات الجسد.
وفي هذا الرأي ما يكشف عن جانب هام من نزعة هاينه الفكرية ونظرته إلى الوجود، كما تتجلى وتنعكس في أشعاره وكتاباته النثرية الجدلية، وهو ابن عصر زعزعته تعاليم الثورة الفرنسية وحركته الثورة الصناعية.
تكتنف أعمال هاينه ومراسلاته الكثير من العناصر ذات الصّلة بالثقافة العربية والحضارة الإسلامية، أهمها وأبرزها مسرحية "المنصور" وقصائد متميزة كـ"العذري" و"علي باي" و"أبو عبدالله" (آخر ملوك غرناطة) و"الشاعر فردوسي" وغيرها، لكنها تتمثـل أيضا في عدد وافـر وكمّ غـفـير من الصور والاستعارات، والخواطر والنوادر، والتعاليق والإشارات، تفصح عن انكباب ظرفي متكرر على تلك الحضارة وتشهد على اهتمام متواصل بها.
ولئن لم يخف هذا الجانب الاستشراقي على الباحثين العرب حول هاينه فإنه ظل طويلا مهمشا لا يحظى إلا بما قـلّ من الدرس والتمحيص وينظر إليه في كثير الحالات من وجهة نظر انتماء هذا الشاعر الألماني إلى الأصل اليهودي.
بقلم منير الفندري
حقوق الطبع قنطرة 2006
منير الفندري، أستاذ في جامعة تونس، قدم رسالة دكتوراه في الأدب الألماني حول "هينريش هاينه والشرق الإسلامي" (همبورغ/دوسلدورف 1980) وهو أول بحث تناول هذا الجانب في شموليته وأعماقـه بالتحليل والنقد وسلط عليه الأضواء بما يستحق. منحته هيئة التبادل الأكاديمي عام 2006 على جائزة غريم لأعماله المتميزة في مجال الأدب الألماني