"زمن العولمة" للفيلسوف المغربي محمد سبيلا:
قراءة عربية في أمراض العصر و تشريح لظاهرة الإرهاب
يطرح الفيلسوف المغربي المعروف محمد سبيلا، أحد رموز خطاب الحداثة في المغرب، في كتاباته حول العولمة أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة، كما لو أن كتابته المنخرطة في الفعل الحداثي والديمقراطي لا تقوم إلا على أساس حوار صريح ومفتوح مع المجتمع وقضاياه، فبعيدا عن الأحكام المسبقة والرؤى الايديولوجية المغلقة يعمل محمد سبيلا على تشريح الواقع السياسي والثقافي والمجتمعي. رشيد بوطيب في عرض لأهم أطروحات محمد سبيلا.
"في كتابه الأخير زمن العولمة يقسم الفيلسوف المغربي المعروف محمد سبيلا الإرهاب إلى ثلاثة أبعاد: البعد السياسي والتقني والإعلامي"
في كتابه الأخير "زمن العولمة: فيما وراء الوهم" يقسم الفيلسوف المغربي المعروف محمد سبيلا الإرهاب إلى ثلاثة أبعاد: البعد السياسي أو الإيديولجيا التي يعتنقها الإرهابي والبعد التقني أو التكنولوجي أو الأدوات، التي يستعملها الإرهابي والبعد الإعلامي، الذي يضاعف مفعول العنف السياسي والعسكري، إذ كما قال السوسيولوجي الفرنسي بودريار "فالإعلام بالإرهاب هو إرهاب بالإعلام".
ولهذا يرى محمد سبيلا أن الإرهاب هو الابن العضوي للعصر الحديث من حيث تسخيره للتقدم التكنولوجي وللتطور الإعلامي تماما كما ينتمي للعصر الحديث من حيث ارتباطه بمفهوم الثورة والثورة الإيديولجية كما حدث إبان الثورة الفرنسية أو الروسية ومع انتشار النزعات العدمية والفوضوية والفاشية. كلام سبيلا هذا قد نفهمه كرفض للنزعة الثقافوية التي تحاول ربط الإرهاب الإسلاموي بالدين والبحث عن أصوله في الإسلام، إن الإرهاب ابن عصره ومحيطه وبيئته وهو تعبير عن فشل السياسة في تقديم أجوبة على أسئلة الواقع.
الفقهاء كفئة إيديولوجية
يرى سبيلا "أن فئة الفقهاء لعبت وظيفة إيديولوجية في المجتمع العربي الإسلامي"
ويعرج محمد سبيلا في كتابه على قراءة دور الفقيه في المجتمع الإسلامي، ويرى أن فئة الفقهاء لعبت وظيفة إيديولوجية في المجتمع العربي الإسلامي منذ القدم تتثمل "في القيام بنوع من الوساطة التي تقوم على تقديم الخدمات الروحية والدينية لعموم المؤمنين، سواء في أداء الشعائر أو في إصدار الأحكام أو في الإرشاد والتوجيه المعنوي والأخلاقي على وجه العموم". إن الأمر يتعلق ببيروقراطية دينية، لكنها بيروقراطية تختلف عن الإكليروس المسيحي (طبقة رجال الدين المسيحيين) لأنها لم تبلغ يوما تلك المكانة التي بلغها في الغرب كطبقة تتحكم بكل شيء من النفوس والعقول وحتى السلطة السياسية. ولعل ذلك، يقول محمد سبيلا، ما طبع التاريخ الغربي ولقرون طويلة بسمة الصراع بين الكنيسة والسلطة الدنيوية.
وهذا ما يفسر أيضا وصف عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر للإكليروس بأنه يحاول تشكيل بيروقراطية سماوية قبل الأوان. لكن فئة الفقهاء في التاريخ الإسلامي أخذت شكلا جديدا في المجتمعات العربية المعاصرة واستقوى دورها بفعل الحاجة إليها للافتاء في قضايا جديدة تواجهها المجتمعات العربية، ولكن، وهذا ما يتوجب أيضا الإشارة إليه، لأن المجتمعات العربية لم تعتنق الحداثة وإنما تقنيتها فقط، وظلت محافظة في رؤيتها إلى العالم وعاجزة عن اعتناق الفكر النقدي، الذي يحدد مجال نفوذ الفقهاء في دور العبادة ويسمح للمثقفين الذي يفهمون لغة العصر بتقديم الأجوبة المناسبة على أسئلته.
إن "عودة الفقهاء القوية" يجب أن تفهم كفشل لمشروع التحديث في المجتمعات العربية، وليس فقط ردا على نزعة السيطرة الغربية. كما يؤكد محمد سبيلا أيضا أن الفقهاء في القرن العشرين كانوا الأشد رفضا لتبيئة التقنية الحديثة في المجتمعات العربية ويقدم أمثلة على ذلك تبعث على الضحك والحزن في آن، فهذا محمد الناصري صاحب كتاب "الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى" يرفض إدخال القطار والتلغراف إلى المغرب من طرف الأوروبيين لأنهما في نظره دليل على تغلغل الأجنبي في المغرب" كما قاوم الفقهاء في مصر محاولات الدولة العثمانية إدخال المطبعة بحجة أن اللغة العربية مقدسة ولا يجب تدنيسها باستعمال المطبعة.
في وجه مشاريع التحديث
كمثال على مواجهة التحديث "مقاومة الفقهاء في مصر محاولات الدولة العثمانية إدخال المطبعة بحجة أن اللغة العربية مقدسة ولا يجب تدنيسها باستعمال المطبعة"
كما يضرب محمد سبيلا مثلا بموقف حركة طالبان الأفغانية من العصر وفتوحاته التقنية والسياسية والحقوقية قائلا:" لقد رفض الطالبان الديمقراطية، وفصلوا المرأة عن العمل، وفرضوا عليها لبس كيس عازل، وحرموا التصوير الفوتوغرافي وبخاصة تصوير "ذوات الروح" ومنعوا تعليم البنات، ودمروا جزءا من التراث البشري، وأغلقوا دور السينما، واعتبروا التلفزيون من "الكبائر"، واعتبروا الموسيقي "إثما كبيرا وحرموا الرقص والعديد من المتع والجماليات"، وفرضوا على الرجال تطويل اللحية إلى ما أطول من الشبر، بل اعتبروا تنمية اللحية شرطا للتوظيف، كما حرموا، من بين ما حرموا، استعمال الأنترنت، وحظروا معالجة الأطباء للنساء مباشرة ولعب الشطرنج وبطاقات التهاني وربطة العنق والألعاب النارية والتماثيل وكاتالوجات الموضة وأقراص الكومبيوتر. والأدهى من ذلك أنهم نفروا من الكراسي والطاولات باعتبارها تقليدا غربيا يتنافى مع الإسلام".
ويأتي موقف رجالات السياسية مختلفا جذريا عن موقف الفقهاء، يؤكد محمد سبيلا، استنادا إلى معطيات تاريخية "فقد كانوا أكثر مرونة في التعامل مع الأجنبي فتقبلوا المستحدثات التقنية والعديد من "التنظيمات" والقواعد التي اقترحها الأجنبي. ويبين تاريخ المغرب الحديث أن السلاطين كانوا أول من استقبل هذه المخترعات، حيث اختبروها واستعملوها في قصورهم". لكن محمد سبيلا يشير أيضا إلى التطور الذي عرفته فئة الفقهاء، ويضرب مثلا على ذلك بالثورة الإيرانية التي أخرجت الفقه من موقع الرفض السلبي لمنتجات الحضارة الحديثة بعيدا عن كل فعل سياسي إلى موقف الفعل السياسي، لكنه فعل لم يتجاوز شيزرفرينيا الأنظمة الرسمية في المنطقة العربية، لأنه يكتفي باستيراد التقنية ويرفض الديمقراطية والحداثة وقيم الاختلاف.
العولمة و"إنسانها"
ينتقل محمد سبيلا في نهاية كتابه إلى معالجة قضية العولمة ويبدأ أولا بالتساؤل حول المفهوم ذاته. ويرى بأن العولمة ليست فقط القوى الاقتصادية الكونية الجبارة التي تذرع الكون كله، وليست فقط القوى التكنولوجية الهائلة المنفلتة من عقالها، والمتجهة نحو نحقيق المزيد من القوة والتحكم في الكوكب الأرضي، وليست فقط القوى الإعلامية والمعلوماتية والثقافية المتحكمة بخناق العالم، بل هي إضافة إلى هذا وذاك رؤية إلى العالم. رؤية ترى العالم وحدة عضوية متكاملة، أو سوقا كونية كبيرة لإنتاج وتسويق السلع المختلفة المادية منها والرمزية. سوق مواطنوها مستهلكون، مسكونون برغبات استهلاكية لا تنتهي، حتى أنه يمكن القول بأن القوى المالية والتكنولوجية التي أسست وتقود العولمة أضحت مستقلة نسبيا عن سيطرة الإنسان وخاضعة لمنطقها الداخلي، الذي يرفض أي تدخل خارجي، بل ويعمل على صنع إنسان على مقاسه، إنسان ميركانتيلي لا يقيس الأشياء والأفكار والقيم إلا من خلال مردوديتها ولا يخضع لأي منظومة فكرية أو إيديولوجية.
ولا بد أن تتوفر في هذا الانسان المعولم جملة من الشروط منها إتقان اللغة الأم الخاصة بالعولمة، التي هي الإنجليزية، وامتلاكه ناصية المعلوماتيات والتحرر من كل أشكال الحنين إلى هوية وطنية أو قومية أو دينية، إذ كما يقول سبيلا وبحق:" إن خطاب العولمة الضمني، وآلياتها التنظيمية المختلفة لا تطال فقط السوق الاقتصادي والسوق السياسي والسوق الثقافي، بل تداهم العالم الداخلي للشخصية فتكيفه وتستعمره وفق المواصفات التي تحددها وتفرضها كمعايير لإمكان اندراج الشخص في المسيرة الكوكبية للعولمة".
إن العولمة لا تقبل بوجود مراكز متعددة ولا هوامش، ولا تقبل بحق الآخرين في الاختلاف والاحتفاظ بهوياتهم ولغاتهم، بل هي في تطورها أبعد ما يكون عن الديمقراطية، حتى وإن كانت تختفي خلف خطاب ديمقراطي وليبرالي وخلف عقلانية حسابية سبق وشبهها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بالجلاد.
رشيد بوطيب