القصيدة الضوئية من فيزياء المفهوم .. إلى كيمياء الرؤيا
قراءة نقدية في (أدونيس ... سياسة الضوء) لفـداء الغضبان
الجزء الثاني
كاظـم خليـل*
4-2- تحليل : ( القصيدة الضوئية : أول الشعر)
التحليل :
أولا ً : النص الشعري المكتوب :
-* ( أول الشعر )
أجملُ ما تكونُ أن تُخلخل المدى
والأخرون بعضهم يظنّك النداء َ
بعضهم يظنكَ الصّدى
أجملُ ما تكونُ أن تكونَ حجة ً
للنورِ والظَّلام ِ
يكون فيكَ آخرُ الكلام ِ أولَ الكلام ِ
والآخرون - بعضهم يرى إليكَ زبدا ً
وبعضهم يرى إليكَ خالقا ً
أجملُ ما تكونُ
أن تكون هدفا ً –
مفترقا ً
للصمتِ والكلام .
- *يبدأ ظهور( اللوحة : الرقيمة ) الخاصة بهذا النص، كمسرح متحرك تبدأ منه حركة الكاميرا وتنتهي فيه ، و تجري عليه وفيه الإيحاءات التعبيرية - شبه الدرامية ؛ للمحتوى الشعوري الرمزي الإشاري الانفعالي للنص الشعري - كما ذكرنا آنفا ً.
-وللملاحظة ، يحرص (الغضبان) على حركة الكاميرا الافتتاحية ( زوم إن ) للوحة : الرقيمة ؛ بلقطة ذات طبقة واحدة فقط ، ثم يحرك كاميرته بحركة لولبيَّة -عكس عقارب الساعة – في كامل عمله ( الديوان الضوئي ) وهو بهذه الحركة إنما يعطي المشاهد فرصة للتمعن (باللوحة :الرقيمة ) مفردة ً كما صنعها أدونيس على مساحة الورق – كما يفعل ذلك في اللقطة الاخيرة ( زوم آوت ).
-*يبدأ ظهور أدونيس فيلمياً من بروز القدمين ( لقطة تفصيل )، وهي تتحرك على أرض اللوحة ، عبر بروز لقطتين متراكبتين ، في المشهد الأول ، دلالة على الوجود المادي الأرضي لحالة ما قبل اللغة ، ثم يظهر بمشهد فيلمي ثان ٍ ،على أن هذا المشهد مختلف عن الأول ومرتبط به دلالياً.!
- حيث يعمد المخرج إلى إيجاد ( المعادل الرمزي المرئي ) ليتكامل التخليق الإخراجي مع محتوى النص الشعري الأدونيسي ؛ حين يتزامن ظهور جسد أدونيس ( بشكلٍ ثنائي متحرك : لقطتين متراكبتين لأدونيس ) مع ظهور صوته : ( أجمل ما تكون ) حيث تتطابق حركة أدونيس الممثل - هنا – مع اقتراح السيناريو البصري في اللحظة التي يلفظ فيها أدونيس : ( أن تخلخل المدى ) . فيظهر الشاعر وهو يسير بين الغيوم وفوقها ؛كإشارة بصرية "لخلخلة المدى ".
-إن التحليل النقدي الذي قام به المخرج ، الباحث : الغضبان، لنص أدونيس هنا هو :
اجتهاده على إيجاد ( معادل رمزي مرئي ) للبؤرة البصرية ( المَحرق ) لمحتوى النص الشعري وهي هنا في هذا النص محتوى جملة : " أن تخلخل المدى "
حيث تم ذلك ؛ وفق المخطط التالي :
1- (النص الشعري ) : أجمل ما تكون ُ " أن تخلخل المدى "
2- (المعادل الرمزي المرئي ) = ظهور جسد أدونيس ( بشكلٍ ثنائي متحرك : لقطتين متراكبتين للشاعر يسير بين الغيوم ) لتشير و تؤكد بصريا ً :
-أن أدونيس ( الشاعر ) قد خلخل المدى بظهوره الفيزيقي ... على هذا النحو بين الغيوم خارج الحيز المكاني البشري المُعتاد لفعل المشي . وإن ظهور أدونيس في هذا المكان تزامن مع ظهور القصيدة ( صوتيا ً ) فاللغة : الشعر، قد ارتقت بالوجود البشري من الأرض إلى السماء ،ويظهر أدونيس بوضعيته المثالية أثناء الحركة ، يمشي بهدوء في حالة ٍ تأملية ، فيما يمسك (الغليون ) إحدى ثيماته الشخصية الدَّالة إشاريا ً على الحضور الخاص له كمبدع ، فيما يتابع حركته بثقة واضحة . ثمَّ يتصاعد إيقاع النص و يتصاعد الإيحاء الدرامي حين يصل إلى : " أن تكون حجة ً...للنور والظلام " فتظهر ( لقطة : تفصيل رأس أدونيس ) عبر طبقة ثالثة من خلال دخوله إلى داخل الكادر هي بمثابة ( الحجة المرئية) متزامنة ً مع لفظ ( أن تكون حجة ً للنور والظلام ) ،من خلال فعل اللغة و فعل الشعر أو من خلال فعل اللغة الشعرية والكلام الشعري الخاص الذي يمثل " حجة للنور والظلام " حيث تؤكد هذه اللقطة حضور الشاعر الأستعاري النفسي الواثق ( في الأفق .. بين الغيوم ) .وهذا المشهد ؛من المشاهد التي تتميز ببلاغة تشكيلية فيلمية عالية ، حيث عمد المخرج إلى :
- بناء تعدد منظوري للتكوين الواحد ؛ بنفس (اللقطة : المشهد ). - كما عمد إلى إيجاد تعدد بؤري غني للقطة الواحدة ( ثلاثة بؤر متحركة لنفس (الشخصية : الممثل ) ما أعطى (الصورة الفيلمية) قوة استعارية وبلاغية بشكل لافت ، كما ساهم ذلك بأنسنة وجود ( الشخصية : الشاعر ) في هذا (المكان : الفضاء) وتعزيز وجوده (المجازي: الواقعي) في هذا العلوِّ الشاهق ، بين أحرفه وكلماته ( مرسومات اللوحة : الرقيمة ) التي تظهر في خلفية الكادر والتي أصبحت سماء ً وشمسا ً جديدة للسماء القديمة ، هذا بالإضافة إلى أن حركة الكاميرا داخل ( اللوحة : المسرح ) حافظت على حركتها وحيويتها المتنامية مع الإيقاع النفسي المتصاعد بالتزامن مع الموسيقى التصويرية .
- يتابع السرد البصري الفيلمي : والسرد هنا لا يُقصد به السرد الحكائي الحَدَثي بل التتابع المرئي الإشاري الرمزي لحركة أدونيس وإيماءاته .. " ووقوفة ونظره إلى الأعلى " بالتزامن مع لفظه كلمة : ( خالقا ً ) ثم َّمتابعة حركته الواثقة من يمين الكادر إلى شماله ، وذلك أثناء خروجه من الكادر بالتزامن مع لفظه : " أن تكون هدفا ً مفترقا ً للصمت والكلام " . ولا يكون ذلك إلا ( بفعل الشعر) والذي يرمز بإطلاق ( لفعل الإبداع )
لتتصاعد الموسيقى حين تعود اللوحة إلى الظهور حيث ( الشمس) تسبح في فضاء ( اللوحة : الرقيمة)أو السماء الجديدة الحاضنة لألق اللغة الرائية ،مع تصاعد الموسيقى التصويرية المنتشية بروح الشعر والمتنامية مع الإيقاع النفسي المتزامن معها و المرافق لها ، حين تبدأ الكاميرا بالتراجع ( زوم آوت ) لتظهر ( اللوحة : الرقيمة ) حيث المقروء الأبرز منها :
الجملة الشعرية التي وضعها أدونيس ( كلوغو ) على أعماله الشعرية الكاملة " عِشْ ألقا ً ... ابتكرْ قصيدة ً وأمض ِ .. زد سَعَة الأرض ِ " بوصفها تشكل بؤرة ( المرسوم الخطي ) داخل تكوين اللوحة ، حين ُتكمل الكاميرا تراجعها لتظهر اللوحة كاملة .
تتراجع الكاميرا أكثر ، وتختفي الشمس والغيوم والأفق في ( اللاشعور الجمعي الإشاري للنص الشعري الضوئي ) أي = ( اللوحة : الرقيمة ) ويتسع كادر الكاميرا التي تختتم على (اللوحة :الرقيمة ) = (مسرح النص)الذي " تبدأ منه حركة الكاميرا وتنتهي فيه " و تجري عليه وفيه الإيحاءات التعبيرية.
- ما يلفت الإنتباه هو حركة الكاميرا في عَرضِها ( للوحة : الرقيمة ) أثناء تناوبها أو مزجها مع المواد الفيلمية لأدونيس . حيث يفرد المخرج لها مساحة زمنية كافية لإستيعاب (المتلقي: المشاهد) للمرسومات الخطية والمواد الأخرى التي تشكل التكوين الكامل ( للوحة : الرقيمة ) كما يعمد المخرج إلى اختيار حركة كاميرا غاية في السلاسة والراحة لعين المتلقي ( عكس عقارب الساعة ) التي تتابع استعراض مفردات ( اللوحة : الرقيمة ) بمتعة وحيوية مترافقين .
-تتكامل المادة الفيلمية للشارات الافتتاحية، التي تتغير إيقاعاتها اللونية بتغير إيقاع النص الشعري - لكامل الديوان الضوئي وبالتزامن مع النص الصوتي (النص : المدخل) المرافق للشارة والمتغير بتغير القصيدة ، والدال شعرياً على علاقته مع النص الشعري الثاني الذي يشكل المنجز الفيلمي الرئيسي للقصيدة الضوئية .
- هنا في هذه ( القصيدة الضوئية : أول الشعر ) يُسحَب اللون من الشارة حيث الأبيض والأسود هو المهيمن بدلالاته النفسية الحادة والقاسية التي توحي بعالم النص الشعري للشارة : ( الموت ، الليل ، القتل ، الخوف، الانكسار، التحدي ، الخلق ، الحزن .. إلخ ) بالتشارك مع ( المُؤَثّر ) الُمطبَّق على المادة الفيلمية للشارة أيضا ً، الذي يُغيِّب الحدود ويعجن الخطوط ويوِّحد الإيقاع النفسي المُتطرف بالتكامل مع الموقف الفكري الحاد والعنيف لمحتوى النص الشعري للشارة؛ وهو:
حضنتُ عَصْريَ- أطويه وأنشرهُ
أخطُّه .. وأغنيّهِ ،و أرْتَجِل ُ
أزورُ أرَض صباباتي،أطوف ُ بها
أُقيم ، أنقضُ ما أبني ،وأرتحل ُ
منورا ً بدمي ، مستنفِرا ً وَلهي
كأنني برحيق ٍ ساحر ٍ ثمِلُ
طوفانُ حبّيَ ميثاقي ، فلا قلقي
يَبْلى، ولا جُرحيَ الخلاَّق يَنْدمِلُ .
- يعمد المخرج إلى إظهار( السواد ) في بداية ومنتصف ونهاية المادة الفيلمية في كل القصائد الضوئية المنجزة ؟!!
كتأكيد على الإيقاع البصري المتناوب للحضور والغياب -الوجود والعدم - الخفاء والتجلي - الضوء والظلمة .
بالإضافة إلى أن ذلك يفيد في الانتقالات المكانية والزمانية بين المشهد والآخر الخاص بكل قصيدة على حدة .
ولرَّبما يشير ذلك أيضا ً؛ بشكل غير مباشر- إلى اللاوعي الكوني ، والذي إنما يدل في العمق على الغياب المطلق للوجود البشري؛ (أي : اللافعل ) مقابل شكل الحضور الإنساني الوحيد القابل للخلود ، والذي يكتنهُ في بنيته الحضور السرمدي الإلهي ، ألا وهو " الحضور المُبدع " أو على نحو دقيق ( الفعل المبدع ) عبر الخلق الشعري - والذي يُرمزُ له هنا من خلال حضور( أدونيس ) : الواقعي/ والمجازي .
3- القصيدة الضوئية ...
من فيزياء المفهوم إلى كيمياء الرؤيا :
1-3- مدخل التحوُّل :
- من فيزياء اللون وقوانينه العلمية يتفاعل و يتحول مفهوم القصيدة الشعرية النصَّية إلى كيمياء جديدة ، حيث يَعمَد فداء الغضبان إلى كتابة ( قصيدته الضوئية ) ولكن – هذه المرة - ليس بحبر القلم ، بل بحبر الخيال ؛ بالألوان و الظلال ، و حركة الكاميرا ،وحجم اللقطة ورسم الحركة والإشارة، والإيماءة الدَّالة بصريا ً،وتشكيل الكادر، عبر تطبيق ( قوانين لونية جديدة : تستند إلى عدد من الاختبارات والروائز النفسية العالمية )- وهي مجموعة قوانين لونية تتعلق بالعمل الفني وقيمه الجمالية ،التي تخص الكادر المتحرك ، والتي- بحدود علمنا - تطبق لأول مرة بهذه المنهجية العلمية .
يسعى ( المخرج : الباحث ) إلى تحويل الإيقاعات النفسية المختلفة للقصيدة إلى إيقاعات لونية مرئية – دون أن تفقد القصيدة شيئا ًمن قيمها التعبيرية والإيحائية الدرامية؛ الرمزية والإشارية الشعرية ، وهو ما ينسجم مع عنوان العمل : ( سياسة الضوء ) مع التأكيد على حضور الشاعر ( الواقعي / المجازي ) داخل النص الفيلمي، وخارجه بالآن نفسه . بالتزامن مع اقتراح السيناريو البصري للقصيدة ، دون أن يكون هذا السيناريو مجرد شرح لعوالم القصيدة النصية . واقتراح حركة كاميرا جديدة تسعى لعرض العمل التشكيلي ( اللوحة : الرقيمة ) وتوظيفه داخل مشهدية النص البصري بحيث تنسج الكاميرا مفردات العمل التشكيلي ومرسوماته الخطية ، بطريقة تخدم بنية تشكيل اللقطة التلفزيونية أو السينمائية وبتكاملية تعبيرية مع المشهد الفيلمي .
وشخصيا ً أعتقد : أنه لا تكفي مشاهدة لمرة واحدة للمتلقي؛ لكي يدرك مجمل البنيات الدلالية الجمالية المُكتنهة ضمنا ً في العمل، وعليه يجب إعادة المشاهدة مرة تلو الأخرى ؛ نظرا ً للمدة الزمنية القصيرة لكل ( قصيدة ضوئية ) على حدة ، أولا ً وثانيا ً لكثافة الدلالات والإيحاءات والمجازات المرئية ، والاقتصاد البصري فيها بآن واحد ، وهذه مفارقة .!! ولكنَّ ذلك يعود برأينا ؛ إلى أنَّ قوانين البناء الفيلمي المستخدمة من قبل (الغضبان ) هي قوانين الشعرية نفسها : (الكثافة – الإيحاء – الانزياح – المجاز – الاقتصاد – الشفافية ..إلخ ) وقد ذكرنا ذلك في المقدمة النقدية سالفا ً، ونعيد التأكيد هنا: إن الشعرية في السينما تعتمد صفات وقوانين ؛ نجدها على نحو بارز في لغة القصيدة الشعرية بخاصة وهذا ما يوحِّد أفق التفكير في السينما في علاقتها بالشعر والعكس صحيح .
2-3- كيف تحولت الفيزياء إلى كيمياء ..؟!
-ينظر (الغضبان) إلى النص الشعري لأدونيس بوصفه ( معلومة ) ليقوم بتحويله إلى مجموعة إشارات دلالية ورمزية ثم يعمد إلى اقتراح تجلياتها المرئية بأدوات (سمعية - بصرية) لتتحول المادة الفيلمية بعد ذلك إلى ( نص معرفي ضوئي) يحتاج إلى طريقة تلـَّق ٍ جديدة مع تحوله ذاك. فكما يتحوَّل الماء فيزيائياً من حالة ( الجليد = المادية ) إلى حالته ( الماء = السائلة) إلى حالته (البخار= الغازية ) يتحوَّل النص الشعري لأدونيس – على يدي ( المخرج : الباحث ؛ الغضبان ) من حالته المادية : المكتوبة ؛ كحالة تلـَّق ٍ ( شفاهي : قرائي أول) إلى حالة تلـَّق ٍ ( بصري : مرئي ثان ٍ ) وإلى ( سمعي - بصري : مرئي آخر = ضوئي ) ، ولعل في هذا المثال خير دليل على ما رمينا به إلى عنوان قراءتنا النقدية (من فيزياء المفهوم إلى كيمياء الرؤيا)
أي : من فيزياء اللون وقوانينه العلمية ؛ يتفاعل و يتحول مفهوم القصيدة الشعرية النصيَّة إلى كيمياء مرئية جديدة ، اصطلح لها الباحث الغضبان تعريفا ً إجرائيا ً هو ( القصيدة الضوئية ).
3-3- الوسائط الجديدة والضوابط النقدية :
نعتقد أنه ينبغي على الفنان الذي يتفاعل إبداعيا ًمع تقنية الوسائط الجديدة بوصفها فنا ًجديدا ً، أن يلتزم بالضوابط المنهجية النقدية الخاصة بعمله ، بحيث لا يجعل من هذه الوسائط وسيلة للتعالي على النص الإبداعي المُؤَسَس عليه – بحجة مضاهاته وبزِّه والتفوق عليه ،كما بحجة البحث عن الدهشة والإبهار– وهذا ما انتبه إليه الغضبان ويُسجل له - وذلك لئلا تقود طريقة استخدام هذه الوسائط إلى نتاج جديد؛ يعلو على النص الأصلي ، ويتحول عنه شكلاً ومضمونا ً – جسدا ً وروحا ً، إلى الدرجة التي يُصبحُ فيها المُنتَج الإبداعي الجديد ، لا علاقة له بالنص المُؤَسَس عليه؛ سوى فقط ؛ بعنوانه القديم واسم مبدعه السابق - وعلى المستوى الشخصي - لقد شاهدت عددا ًمن التجارب والعروض في باريس كما في عدد من العواصم والمهرجانات المختلفة ، والتي وقعت بهذا المطب- وللأسف- بدعوى التجريب والثورة على القيم الفنية .
ولعل النسبة الكبيرة من النتاجات التي تنجز حاليا ًبوصفها تنتمي إلى ( الفيديو آرت ) يمكن أن تمثـِّل خير دليل على هذا القول .
4-3- ( الفيديو آرت ) والنقد الغائب :
إن َّ النقد الأبرز الذي يُمكن إجماله حول نتاجات ( الفيديو آرت ) عالميا ً ؛هو :
أولا ً : إسراف ( الفيديو آرت) في منجزه العالمي عامة ً في البحث عن الشكل (Forme ) على حساب المضمون ( Contenu ) ويظهر هذا جلياً في نماذج عروض كبرى المهرجانات ( للفيديو آرت ) – في فرنسا وألمانيا وسويسرا ... أو في غيرها .
ثانيا ً : غياب (المفهوم ) أوالباراديغم ( Paradigme ) أو : ( نسق التصورات الجمالية) الخاصة بنتاج المبدع صاحب التجربة ، والاتكاء المطلق على (الانفعال التقني المباشر - أدائيا ًمع الكاميرا ) ومكملات البناء الفيلمي للعمل ، عبر الاتكاء على قانون ( المحاولة والخطأ ) الذي يكاد يقترب من حدود ( الفوضى) في عدد كبير من نماذج النتاج الفيلمي (للفيديو آرت)
- في التعليق على النقدين الآنفين يمكننا القول :
إن هوس (الشكلانية ) بحجة البحث عن الدَّهشة والإبهار ؛عبر تقديم صور أو لقطات متتابعة بأي طريقة - أحيانا ً- قد يبدو هو الأساس وهو الغاية النهائية للكثير من نماذج (الفيديو آرت )، حتى وإن بدا العمل المنجز خاليا ً من أي معنى أو أي محتوى .
ولكن يجب الانتباه : أنه قد انتهى عصر الفصل بين الشكل والمضمون في المنجز الإبداعي على اختلاف ألوانه – كما أثبتت ذلك النظريات النقدية الحديثة – أدبية أو فنية أو غيرها . وعليه فنحن نعتقد؛ أنه ينبغي على فناني ( الفيديو آرت ) عدم إضاعة الوقت في جعل هذه النقطة مثار إعادة إختبار وتخمين .
علما ً – أن المرء لا يعدم مشاهدة بعض من نماذج (الفيديو آرت) المؤلفة من لقطة واحدة ، مثلا ً- هي غاية في الجمال والجدة – حيث لا ينفصل الشكل فيها عن المضمون بل يغدو الشكل والمضمون واحدا ً في كل ٍّ منسجم .
لكن تجب الملاحظة : أن بعض نماذج (الفديو آرت) الأخرى، قد تتألف من لقطة واحدة مفردة ( لقطة فيلمية لسقوط الثلج .. ) أو قد تتألف من عدة لقطات متتابعة : ( لقطة فيلمية لحركة الغيم .. ثم يتبعها لقطة أخرى لعمال النظافة .. وقد لا يربطها أي رابط مع التي قبلها .. وهكذا ... ) وقد لا يكون لهذه اللقطة أو اللقطات؛ أي معنى سوى ظهورها الفيزيائي أمام العين بحيِّز أو ( كادر ) ثابت للكاميرا – ومع ذلك - فنحن لا نستطيع القول أولا يحق لنا القول - حتى - أن هذا النموذج لا يُصنَّف ضمن ( الفيديو آرت ) .
-أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية ، حول غياب (الباراديغم Paradigme)
فإننا نرى : إن غياب التوصيف النقدي الدقيق لهذا الفن،على نحو كبير- يلعب دورا ً في وسمة بصفه ( الفوضى ) وخصوصا ً- إذا علمنا أنه حتى الآن -لا يوجد تعريف متفق عليه عالميا ً– بين النقاد لهذا الفن الجديد
كما أنَّ جدَّة هذا الشكل الفني وعدم تبلور نماذجه عالميا ً، يلعب دوراً مكمِّلا ً بهذا الشأن، إذ ما يزال ( الانفعال التقني المباشر ) هو الذي يقوده ، فيما القانون الذي يحكمه هو قانون ( المحاولة والخطأ ) بدعوى التجريب والحرية ،في المنجز الرديء منه والمقبول على حد سواء.
من هنا يمكن النظر إلى أهمية وخصوصية تجربة (الغضبان) في إيلائها المضمون ( Contenu ) نفس درجة الأهمية التي تعطى للشكل (Forme ) بالتزامن ؛ وبنفس الدرجة إلى الحد الذي لايمكن الفصل بين الشكل والمضمون ، فالشكل هو المضمون والعكس صحيح وبنفس الأهمية ، وهذه خصيصة إيجابية تحسب للعمل .
هذا بالإضافة إلى النقطة الأهم وهي ؛ السعي الجاد لتجاوز المنجز السائد ، في معظم نتاجات ( الفيديو آرت ) على اعتبار تقاطع هذا العمل مع بعضها، إلى اقتراح ( باراديغم Paradigme ) خاص بهذه التجربة الفيلمية الهامة .
5-3- ما هو (الباراديغم : paradigm) في تجربة الغضبان :
كما ذكرنا آنفا ً،إذا كان مصطلح (الباراديغم) بالمعنى العام يعني : نسق التصوّرات المقبولة عموما ً في مجالٍ بعينه.
فإننا بعد تحديد أهم الإجراءات النظرية والممارسات الفيلمية التي أعتمدها الغضبان عمليا ً،والتي كوَّنت بمجملها (نسق التصورات الجمالية ) لهذه التجربة الجديدة ، وبعد القيام بالتحليل التطبيقي من خلال مثال ( القصيدة الضوئية : أول الشعر) نرى أنَّ ( البارديغم ) في تجربة الغضبان هو التصور الجديد الذي أعطاه ( الباحث : المخرج ) (للضوء) في القصيدة أو( للضوء : القصيدة ) وهو : ( السياسة الضوئية للقصيدة ) أو على نحو دقيق هو ( السلوك النفسي اللوني للضوء؛ بتفاعله مع النص الشعري ) والذي استعار منه الغضبان إجرائيا ًمصطلح ( القصيدة الضوئية ) وبالتالي فالمفهوم الجديد للضوء، هو كامنٌ في عنوان العمل نفسه : (أدونيس ... سياسة الضوء ) والذي يختزن بذكاء؛ نسق التصورات الجمالية الخاصة بهذه التجربة الفيلمية – والتي ذكرناها مفصَّلة ً في تحليلنا السالف - حيث صاغ منها ( الباحث : المخرج الغضبان ) فروضه العلمية وقدَّم نتائجه الميدانية ،عبر اعتماده أصول البحث العلمي في أطروحته عن شعر أدونيس.
6-3- في محاولة توصيف التجربة :
تظهر إفادة المخرج الغضبان من المنجز الفيلمي السائد، كما يظهر استيعابه للمفاهيم الجمالية الحديثة بعلاقتها مع الشعر على نحو خاص ، كما يظهر إفادته من الفيلم التسجيلي وإن لم نستطع تصنيف مُنجزه ضمن فئته ، كما تظهر إفادة الغضبان من بعض أشكال (الفيديو آرت ) السائدة، وإن لم نستطع أيضا ً تصنيف منجزه ضمن فئتها- وللمناسبة (فالفيديو آرت) له أشكال مختلفة ومتنوعة كثيرة ، يقترب بعضها من (الريبورتاج التلفزيوني الإخباري ) ويبتعد بعضها عنه ليغدو( لقطة واحدة ) لا يتجاوز زمنها النصف دقيقه ؛حيث تعرض لمشهد" سقوط المطر على التراب مثلاً".على أنني أدرك شخصيا ً ،أن ثمَّة َ فضاءات جديدة في (الفيديو آرت ) لم تكتشف بعد، ولعلَّ في عددٍ من نماذج هذه (القصائد الضوئية) ما يمكن أن ينبئ باكتشاف بعضها على نحو مبدع .
ولكنني أعتقد –على مستوى آخر أن مصطلح : ( القصيدة الضوئية ) ، الذي يُطلقه (الغضبان) قد يقترب في بعض نماذجه من (الفيلم التسجيلي التجريبي) بقدر ما يبتعد عنه ويتجاوزه بآن - لذا سأطلق عليه ( الفيلم الميتا تسجيلي ) : أو ( الما فوق واقعي ) على افتراض صحة التسمية، لكن وللإنصاف فإن َّ هذا الأمر لا يُنقصُ من أهمية المصطلح الإجرائي- والذي يمثِّل برأينا التوصيف الدقيق لهذه التجربة ألا وهو: ( القصيدة الضوئية ) ،حيث يشكل بمجمله ( الديوان الضوئي ) والذي يُطلقه الغضبان على منجزه الفيلمي ،مع الإشارة المتكررة ؛أنه يطلق لأول مرة في فضاء الإعلام الثقافي العربي .
ولو أن الغضبان قد تحرر من ذهنية ( العرض التلفزيوني) بشكل كامل- كما في بعض نماذجه (الضوئية ) المنجزة ، واتجه بشكل مطلق إلى ( فضاءاته الفيلمية التجريبية أو قصائده الضوئية ) كما في القسم الأكبر من ( ديوانه الضوئي )، لكان ذلك - أجدى تجريبا ً – من مراعاة ذهنية الفضائيات العربية وشروطها الرقابية الخانقة .
لكن ذلك؛ لا يمنعني من القول الصريح : إنَّ هذه التجربة الجديدة هي التجلي الأبرز في المشهد الثقافي العربي السائد لعلاقة الشعري بالفيلمي في تفاعله الإبداعي التقاني – هذا على مستوى ، وعلى مستوى آخر: أنني أعلم تماما ً أن الحسابات الإنتاجية الظالمة لحرية الإبداع ،غالبا ً ما تلعب دورها بهذا الشأن . ولعل هذا ما يدفعني إلى القول أيضا ً: بضرورة قيام جهات إنتاجية ثقافية خاصة بتبني مثل هذه المشاريع الثقافية المبدعة ، لما تختزنه من دعم خلاق للحضور الثقافي العربي في عصر الثورة المعلوماتية .
وعموما ً فإن هذه التجربة ( أدونيس : سياسة الضوء ) التي يقدمها المخرج : الباحث فـداء الغضبان ، كمنجز ثقافي مرئي هي تجربة في غاية الأهمية، وخصوصا ً أنها تبني طروحاتها الجمالية بأدوات نقدية مرئية – وهذا ما يحدث لأول مرة في المنجز النقدي الشعري العربي ، مع أشهر شعراء العربية في العصر الحديث . وغني عن البيان أن هذا ما يزيد من أهمية و جرأة التجربة الجديدة .
ختاما ً:
لابدَّ من توجيه الشكر الكبير لمجلة ( دبي الثقافية ) وإدارتها ،لاحتضانها هذه التجربة الإبداعية إعلانياً وثقافيا ً، من خلال تقديم مختارات منها – وإن لم تكن هذه المختارات القليلة تعبر عن كامل الأطروحات الجمالية للتجربة بشموليتها.
على أن هذه التجربة - بحق – جديرة بالمناقشة النقدية الهادفة ، والمحاورة الجمالية الراقية ، والرعاية الإعلامية الجادة من المؤسسات الثقافية والإعلامية العربية ، وهي تُعدُّ محاولة إبداعية رائدة ؛ وغير مسبوقة في ميدانها الفيلمي ، لأنها تمثل المتحرك الإبداعي الشعري المرئي - في تفاعلها الخلاق مع ثورة الوسائط الرقمية الحديثة - بشكل خاص- في بحيرة الثبات المعلوماتي الثقافي السائد .
في ظل ملامح أزمة ثقافية عربية حالية ؛ ترتبط بثقافة التكنولوجيا من جهة كما ترتبط بتكنولوجيا الثقافة من جهة ثانية .
___________
كاظم خليل: ناقد وفنان تشكيلي مقيم في باريس