القصيدة الضوئية من فيزياء المفهوم .. إلى كيمياء الرؤيا
قراءة نقدية في (أدونيس ... سياسة الضوء) لفـداء الغضبان
الجزء الأول
كاظـم خليـل*
أولا ً: القسم النظري
تمهيد :
مع تسارع المكتشفات الحديثة في القرن التاسع عشر، من اختراع آلة الفوتوغراف فالسينما توغراف وصولا ً إلى السينما الحديثة ( الصامتة – فالناطقة ) ساهم ذلك ليس في إعادة الاعتبار للصورة داخل بنيان اللغة المكتوبة - بل وحتى بتأثير ثقافة الصورة الحديثة بالفنون مجتمعة .
ولقد أدَّى اكتشاف آلة الفوتوغراف إلى تغيير المفاهيم الثابتة والمستقرة في فنون الرسم والنحت والفنون التشكيلية عموما ً، مما كان له الأثر الكبير في ظهور المدارس الفنية الحديثة في أوروبا ، من الانطباعية إلى التكعيبية وصولاً إلى التجريد وفنون البوب آرت ... وليس آخرا ً الفيديوآرت .
وكذلك فعلت السينما على نحو أكثر تأثيرا ً- ولعل السرياليين تعلموا الكثير من السينما ومن فنون ( المونتاج montage ) أو التلصيق ،على نحو خاص .
وكذلك فقد ظهرت تبادلية العلاقة بين السينما والأدب عموما ً ، والسينما والرواية بشكل واضح ، ولقد كان للسينما أثرها في إيجاد جنس إبداعي جديد ومستقل هو : السيناريو .
1-عن الشعر والسينما :
لم يكن الشعر الحديث بمنأى عن ذلك – من خلال تلك العلاقة المتأثرة والمؤثرة ، وإذا كان ثمة اختلاف بين الشعر الحديث والسينما من حيث الظاهر فإن العلاقة بينهما على مستوى العمق تُصرِّحُ بغير ذلك ، من خلال اتفاق كل من الفيلم والقصيدة؛ أنَّ النقطة الأساسية هي ليست بإخبار المشاهد أو القارئ بما تعنيه الأشياء؛ بل بما يجعل المتلقي يكتشف ويشعر ويدرك ويؤوِّل المعنى ويعيد إنتاجه بنفسه مرة ً إثرَ أُخرى .
ولا يخفى بالآن نفسه ؛ اتفاقهما على مبدأ التجاوز الذي قام عليه (المونتاج السينمائي )، إلى جانب النزعة التصميمية العالية التي نراها في الفيلم والقصيدة معاً ؛ فيما يتعلق بكسر الأنظمة والأشكال المهيمنة وتجاوزها لبناء نظام مستند إلى تجربة المبدع الذاتية واعتبار هذا التجاوز شرطاً لتشكيل العمل الفني وتميزه.
ويظهرُ هنا تكنيك العمل والبناء الفيلمي لدى المخرج ،كما يبرز تكنيك العمل والبناء الشعري لدى الشاعر- وإن اختلفت الأدوات.
فيبرزُ دور ( حجم اللقطة ) في تفعيل درامية الحدث ووظائفه النفسية المهمة حيث يعدُّ أحد وسائل التعبير عن طريقة الطرح وتفعيل الإيحاء الدرامي وتصاعده ، ومن المعلوم أن لكل طريقة معالجة فنية خاصة تتميز بحيِّز لقطاتها وخلاياها التشكيلية والبنائية والدلالية .
وبلقطة ما؛ يصبح الزمان مكانا ً والمكان زمانا ً، حيث تقوم اللقطة حينذاك بوصفها (سلوكا ً بنائيا ً )على مدى قدرتها الإيحائية لتصبح ( فعلا ً أو رد فعل ) من خلال اختيار حجمها ويتوقف حجمها على نوع رد الفعل ودرجته وشدة توتره أو هدوئه وثباته ...إلخ . وفي السياق نفسه ؛ درجت العادة على أن يكون المتحدث دائما ً هو الفعل ، ومساحة حجم ( الكادر : الحيِّز) للقطة يتوقف على أهمية مضمون حديثه . لكن الفعل قد يكون إشارة أو إيماءةً أو تعبير وجه أو حركة ممثل داخل الكادر بدون أي كلام بتاتاً ، وتساهم حركة الكاميرا بتشكيل هذا الفعل وتأكيده أو نفيه أيضاً ، وبالتالي يُصبح الفعل جزءا ً من السياق البنائي وجزءا ً من سياق أبعاد الشخصية وجزءا ً من طبيعة الموقف الإخراجي والرؤية الإخراجية، بالتكامل مع السيناريو ككل .
وما نريد التأكيد عليه هنا ؛هو إبراز العلاقة المهمة بين لغة الإخراج السينمائي ولغة الشعر ، وإن اختلفت الأدوات، فالسينمائي يحتاج إلى وسائط خارجية وتجهيزات تتحكم حتى بالنتيجة الإبداعية الفيلمية ،بينما لا يحتاجها الشاعر- وسنشيُر إلى ذلك تاليا ً.
ولعل الجانب الأهم في العلاقة بين الشعر والسينما يتمثل في ( قانون الشعرية ) نفسه - على اختلاف تمظهرات وتشكلات هذه الشعرية ، لكنها تبقى الخيط السحري الذي يَنظمُ الفنون، والسقف الذي تسعى كل أجناس الإبداع بما فيها السينما إلى بلوغه ، ذلك أنه حتى السينما لا تستطيع الوصول إليه إلا من خلال لغتين : لغة القول ،ولغة الصورة:
فمن حيث لغة القول : فإن الشعرية في السينما تعتمد بدورها صفات وقوانين ؛ نجدها على نحو بارز في لغة القصيدة الشعرية بخاصة ومنها : ( الاقتصاد – الكثافة – الإيحاء – الانزياح – المجاز – الشفافية ..إلخ ) وهذا ما يوحِّد أفق التفكير في السينما في علاقتها بالشعر والعكس وارد أيضا ً.
ومن حيث لغة الصورة : فإن مفهوم الشعرية هنا يتحول إلى لحظة من لحظات تمفصل الفيلم واستعماله للصور السينمائية من خلال لقطة واحدة أو عدة لقطات متتالية استعمالا ًمجازيا ًعلى نحو غير مألوف بصريا ً.
2- مفاهيم جمالية حديثة :
مع البحث عن قيم جديدة في فنون ما بعد الحداثة : انقلبت المفاهيم الجمالية ، وكانت ثورة الميديا والثورة الرقمية الجديدة ؛البوصلة الجمالية العالمية؛ التي أثرَّت حتى بنظرة الإنسان إلى نفسه ، حيث شكَّلت ( الوسائط المتعددة ) أي : " تعدد المواد والخامات أو الأدوات أو الوسائل والتقنيات المستخدمة في الإبداع الفني" وأيضا " تداخل المجالات الفنية كالفنون التشكيلية والشعر والأدب والموسيقى والمسرح والسينما والفيديو والتلفزيون والكمبيوتر ، من مجالات الفن المختلفة " إحدى آليات إنتاج الفن ،بل و قاسماً مشتركا ً في معظم فنون ما بعد الحداثة ، التي ميزت عصر المعلومات منذ النصف الثاني من القرن العشرين؛ وحتى الآن أي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، حيث جاءت التغيرات سريعة ومتلاحقة لحركات واتجاهات الفن التي غيَّرت من الحدود والمعنى لمفهوم الفن ، بل المسمى ذاته من فنون جميلة إلى فنون تشكيلية ثم إلى فنون مرئية . ليأخذ المنطق البصري تفاعلات متعددة الجوانب ، بات من الصعب إجراء تحليل تصنيفي وفق مجالات الفن القديمة من ( عمارة – نحت – تصوير – رسم - مسرح – سينما ) فما تضمنته الممارسة الفنية ( الفن المفاهيمى – أو فن المينمال – أو فن الأرض – أو الفن البيئي – أو فنون الغرافيك - أو فن الحدث أو فن الأداء – أو فن التجهيز – أو فن الفيديو...إلخ ) تموج بالعديد من التداخلات بين الحدود والمعاني والتعريفات الثابتة لمفهوم الفن والجمال . وعكست التطور في تكنولوجيا استخدام الوسائط المتعددة التي تضمنتها معظم الأعمال الفنية بواقع لغوى وسمعي وبصري و أيضاً حركي .
فالوسائط المتعددة أصبحت في كثير من الأعمال عالما ً قائما ً بمفرده؛ في فنون الفيديو والكمبيوتر، وثمة من يطلق عليها مصطلح الفنون الإلكترونية ، ولقد أصبح لهذه الفنون الجديدة (فن فيديو، صور متحركة، صورة رقمية، فن ويب، فن تركيب، فن أداء .. إلخ ) مهرجانات عالمية مستقلة في كبرى العواصم العالمية .
ولاشك أن ذلك فتح أمام الفنانين آفاقا ًجديدة للإبداع بخلق فضاء وعوالم مليئة بالأحداث المتنوعة بين أدب وموسيقى وتشكيل وشعر في واقع سمعي بصري حركي عبر الزمن ، مما يطرح آفاقا ً أكثر رحابة في ممارسة التنظير والنقد ومناهج مغايرة في قراءة العمل الفني . تقوم على مشاركة المتلقي في العمل الفني .
إنَّ الاستخدام التكنولوجي في تقديم أشكال الفن أسهم بشكل فعال في القراءة المفتوحة للعمل الفني مما ساعد على التشتيت الذي لا نهاية له وعدم وضوح بؤرة التركيز التي يستند إليها المشاهد ،كما أدى ذلك إلى تفكيك العناصر الفنية ذاتها. وعليه والحالة هذه فإن على الباحث في الجماليات المعاصرة أن يواكب المنجز الفني المعاصر نقداً واطلاعا ًومتابعة ،وأن يَجدَّ السعي نحو اقتراح واستكشاف مناهج جديدة تنبثق من طبيعة الموضوع المطروح؛ فلا تتعالى عليه ولا تنقص من أهميته ،وهذا يقوده منطقياً إلى أن لا يطمئن إلى مناهجه وعلومه السابقة نفسها ؛بحثاً عن علوم ومعارف عصرية جديدة ، ولقد صدق القائل : " العلم المستقر جهل مستقر ".
3- فداء الغضبان وتجربته الجديدة :
لمناسبة احتفالية ( مجلة دبي الثقافية ) بعيدها السابع ؛وبالتعاون مع إدارة المجلة يطلعنا الفنان فداء الغضبان على مختارات من أحدث تجاربه الفنية التي أنجزها مع أشهر شعراء العربية في العصر الحديث ( أدونيس ) وهي بعنوان : ( أدونيس ... سياسة الضوء ) أو ( الديوان الضوئي للشاعر أدونيس ) والتي تشكل بمجموع نماذجها الجانب الميداني من أطروحة الدكتوراه التي يُعدُّها عن شعر أدونيس .
-لا تنتمي تجربة : ( أدونيس ... سياسة الضوء ) الفيلمية لفداء الغضبان، لفئة الفيلم التسجيلي ولا الروائي ولا تنتمي بشكل مباشر إلى تجارب الفيديو آرت السائدة، أو فن الحدث أو التحريك ، ولا تنتمي حتى إلى فئة البرنامج الثقافي التلفزيوني ولا حتى الوثائقي الدرامي ، فكيف نوصِّف التجربة إذن ..؟!
لقد أتيح لي مشاهدة التجربة كاملة ً، في قسمها الأول 2007 والثاني 2009 وعلى أثر تلك المشاهدة كُتِبت هذه الدراسة النقدية .
وكإشارة تعريفية أولى : فإن َّ فداء الغضبان شاعر وإعلامي سوري ، يحمل شهادة الماجستير في اختصاص (سيكولوجيا الفنون ) عن بحث بعنوان ( الألوان بين المعنى النفسي والقيم الجمالية في العمل الفني ) وهو صاحب أول دراسة علمية تعتمد منهج التحليل النفسي تطبق على فنان تشكيلي سوري بعنوان : ( إدراكات المائت : دراسة تحليلية نفسية جمالية في تحية أحمد معلا لسعد الله ونوس ).الحائزة على (جائزة المبدعين) لعام 2001 . كما أنه أنجز العديد من البرامج الثقافية إعدادا ً وإخراجا ً في التلفزيون السوري أهمها فيما يتكامل مع هذه التجربة :
- ( دمشقيات ) : ديوان الشعر الدمشقي- أنطولوجيا مرئية تلفزيونية :إعداد وإخراج التلفزيون السوري 2008 ، أُنجز لمناسبة احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008
- ( ضوء ) : ذاكرة مرئية لأعلام الفن التشكيلي السوري- أنطولوجيا مرئية تلفزيونية : إعداد وإخراج - التلفزيون السوري- القسم الأول عام 2006 / 2007 والثاني عام 2009 .
والبرنامج يمثل أشمل ( ذاكرة مرئية تلفزيونية لأعلام الفن التشكيلي السوري ) عبر تاريخه .
- (ضفاف ) : الديوان المرئي لأعلام الشعر السوري : أنطولوجيا مرئية تلفزيونية - إعداد وإخراج - التلفزيون السوري 2008/ 2009/2010
والبرنامج يمثل أشمل ( أنطولوجيا مرئية تلفزيونية لأعلام الشعر السوري ) عبر قرن كامل .
4- مفهوم " القصيدة الضوئية " و (الديوان الضوئي ):
يطرح فداء الغضبان مفهوم ( القصيدة الضوئية ) كتوصيف لهذا الشكل الفيلمي المنجز( أدونيس ... سياسة الضوء ) ،وهو شكل تلفزيوني وغير تلفزيوني؛ بآن واحد، أي يمكن أن يعرض عبر محطة تلفزيونية أو بواسطة ( أقراص dvd ) عبر شاشة الكمبيوتر .
إذن ( القصيدة الضوئية ) هو التعريف الإجرائي الذي يقدمه الغضبان كتوصيف لهذا الشكل الفيلمي – وللمناسبة فهو مصطلح جديد يطلق لأول مرة ؛ في الإعلام الثقافي العربي ، على أن أهم صفات هذا الشكل الفيلمي هو ( اللازمنية ) أي عدم اقتران عرضه بمناسبة أو حدث، فهو ضد الزمن وهو قابل للتكرار؛ الآن كما في المستقبل ويمكن عرضه تلفزيونيا ً أو غير تلفزيوني في أي زمن وأي وقت، وبالتالي فهو عكس فن الحدث أو التجهيز والأداء،الذي ينتهي بانتهاء وتغير الزمان والمكان ، لذلك وانطلاقا ً من صفة ( اللازمنية ) فهو ؛إنما يتطابق مع صفة القصيدة ومع روح الشعر، وروح الفن ، وهو لذلك بمثابة كتاب رقمي جديد ،أو على نحو أدق هو (ديوان ضوئي ) .
5- الحوار :
-عن مفهوم ( القصيدة الضوئية ) سألنا فداء الغضبان فأجاب :
-" القصيدة الضوئية : اقتراح بصري – سمعي ؛ لتلقي القصيدة مرئيا ً،بواسطة عين الكاميرا عبر البحث عن جماليات كامنة في النص الشعري ، بالاعتماد على مجموعة قوانين لونية ؛ تستند إلى عدد من الإختبارات والروائز النفسية العالمية ، بمشاركة الحضور الفيزيقي الواقعي والمجازي للشاعر؛ بالآن نفسه ، فلا يغيب النص وراء هذا الاقتراح ولا ينتقص حضور النص من أهمية المفردات الجمالية البصرية المتكاملة ؛ بين الإيحاء الدرامي الإشاري المفترض ؛ مع الصياغة التعبيرية للمادة الفيلمية ، وكل ذلك من خلال اقتراح : ( معادل مرئي رمزي) يُعبِّر أو يُلمح أو يوحي أو يُشير لروح النص الشعري."
وحين سألنا الغضبان عن مدى مساحة الحرية المتروكة للمخرج : الباحث؛ المُؤَوِّل للنص الشعري .. أجاب :
-" يجب على الباحث الالتزام ( بصيغة مرئية مقترحة ) تنبثق من محتوى النص الشعري وإشاراته الرمزية والمجازية ( تقاطعا ً أو توازيا ً أو ربما تناقضا ً ) بشكل قصدي ، فالنص الشعري هو المبتدأ وهو المنتهى ، وهو الحاضر وهو الغائب ؛ الحاضر بشكله الجمالي الجديد المُقترح ؛والغائب بشكل تلقيه القديم ، مع المحافظة على روح النص وعدم إلغائه كليا ً، والتأكيد على حضور الشاعر ( الواقعي:المجازي ) بآن ؛بالتكامل مع العناصر الجمالية البصرية الأخرى ".
وسألنا الغضبان : عن علاقة النص الشعري بالشكل الفيلمي المقترح .؟! ألا تخشى أن يتحول هذا المنجز الفيلمي إلى شرح مباشر للنص ؟؟!!
-" يجب أن لا يكون كذلك .؟؟! ولكن إذا ما لوحظ أنَّ بعض التجارب تقترب من ذلك ؛ فهذا يعود أحيانا ً؛إلى أنَّ الشاعر أيضا ً قد يلجأ في بعض نصوصه الشعرية إلى كتابة القصيدة بتكنيك يقترب من ( صيغة السيناريو) – بل تبدو القصيدة في أحيان أخرى بوصفها (سيناريو قصيرا ً) ، قائما ً بذاته ، وهذا ما يتصل بموضوع بحثي عن شعر أدونيس، ولكن ما يجب التأكيد عليه ،أن هذا الشكل الجمالي المُنجز ليس شرح مفردات بصرية للنص الشعري، وليس تابعا ً له بمعنى ما ، بل هو يتخلق منه كما يتخلق شكل الجنين باتحاد النطفة بالبويضة في رحم الأم ، وبالأخص أن ( اللوحة الفنية : الرُّقيمة ) تتشارك مع النص الشعري في الصياغة البصرية .حتى أن ( الرُّقيمة ) على مستوى الصياغة الإخراجية ؛ تبدو بوصفها (الرحم ) الذي يتخلق منه وفيه وعليه ؛ الشكل الفيلمي المُنجز – بدلالاته ، وإشاراته ، ورموزه ، وإيحاءاته ، عبر تناوب الظهور والخفاء.
وعلى مستوى آخر : فإن علاقة النص الشعري بالشكل الفيلمي المُقترح ؛هو كعلاقة الضياء بقرص الشمس؛ فهي علاقة لا اتصال كلي ، ولا انفصال كلي ، فالمادة الفيلمية في النهاية بعد تكامل عناصرها المتعددة من : ( تشكيل كادر، حركة كاميرا ، تنوع لقطات ، إضاءة ،الإيقاع الصوتي، الإيقاع اللوني- النفسي؛ المتوازي مع الإيقاع النفسي للقصيدة المقترحة .. إلخ ) هي شكل جمالي جديد للنص الشعري ،اصطلحتُ على تسميته إجرائيا ً : ( بالقصيدة الضوئية ).
سألنا الغضبان : يبدو من كلامك، أنه يجب على المخرج أن يكون ناقدا ً حتى يتسنى له فهم التجربة الشعرية للشاعر؛ لكي يستطيع العمل عليها والتفاعل معها بصريا ً ؟!!!
-في السائد العام : ليس الأمر كذلك ..؟!! أما بشكل خاص .. أعتقد أنه يجب على المخرج الفنان أن يكون ناقدا ً بل ويجب أن يمتلك منهجا ً نقديا ً؛ ورؤية نقدية ، وإلاَّ فلن يُعوَّل كثيراً على نتاجه ، وهو رأي شخصي لا أُلزم أحدا ً به . أما وفيما يتصل بإنجاز ( القصيدة الضوئية ) أو ( الديوان الضوئي ) فحتما ً يجب أن يتعامل مع التجربة في العمق بوصفها : (عملا ً نقديا ً )، وشاعرنا الكبير أدونيس يدرك تماما ً أنني أتعامل مع التجربة كذلك وقد عبَّر عن رأيه الإيجابي بهذه التجربة الجديدة .
وبشكل صريح ، أنا انطلق أساسا ً في إنجاز هذه التجربة من كونها تشكل ( الجانب الميداني لبحث علمي عن شعر أدونيس) ولكن – ولأول مرة فيما أعتقد - يُنجزُ البحث بعناصر تتصل بأدوات الإخراج – علما ً أنني لست مخرجا ً ، وليس لدي أي هاجس بهذا الشأن – بل دائماً ما أنظر إلى نفسي ؛ كباحث مجرِّب في سيكولوجيا الفنون ، وهو ميدان اختصاصي الأساسي.
- ولكنَّ اسمك يقترن في شارة العمل بالسيناريو والإخراج والعمل مكتوب أساساً بصيغة السيناريو ..؟!
-نعم ، هذا صحيح ، ولكن ذلك كان بناءً على نصيحة بعض الأساتذة الأصدقاء الذين عرضت عليهم النماذج الأولى من العمل وهم يمتلكون خبرة ً بقضايا التوزيع والإنتاج أكثر مني، ونصحوني بذلك حفاظا ًعلى الحقوق المادية والمعنوية ؛بالإضافة لاعتبارات أخرى خاصة ، وشخصيا ً كنت أفضل ( رؤية إخراجية ) كتوصيف لجهدي ؛ باعتبار الرؤية هي نظرة جمالية خاصة بمفهومي الشخصي ؛كما هي خاصة بمفهومك أنت على سبيل المثال ، ثم َّ إنَّ ( الإخراج ) كلمة كبيرة ، وهو يقترن نقديا ً بعلم الجمال و بفلسفة الفن ، فالإخراج كما تعلم ؛يتضمن علما ً ومعرفة ً وفهما ً بالتشكيل والموسيقا والآداب ثمَّ بعد ذلك تأتي الخبرات التقنية المتعددة المتعلقة بالتنفيذ الإخراجي...إلخ ، والتشكيل مثلا ً؛ يقتضي علميا ً فهماً لعناصر التكوين والألوان والقيم الجمالية المختلفة حكما ً – باختلاف المادة والإتجاهات الفنية والتشكيلية لكل فنان أو لمجموعة فنانين، وكمثال أقول: كيف لي أن أدرك أو أحلل الكادر المتحرك إذا لم أكن قادرا ًعلى فهم وتحليل الكادر الثابت ، والكادر الثابت بشكل من الأشكال هو (كادر : لوحة تشكيلية ) ... إلخ ، وهكذا فيما يتعلق بالموسيقا والأدب و...، وعموماً هذا موضوع ذو شجون لا أريد الخوض فيه هنا .
وفي هذا السياق أورد الحادثة التالية باختصار: بُعيد تسليم شاعرنا الكبير أدونيس نسخة من النماذج الأولى من العمل عام 2007 لم يكن متشجعا ً لمشاهدتها حينها، وسافر إلى باريس ، فانزعجت وقتها كثيرا ً، وبعد عشرة أيام اتصل بي هاتفياً وسألني : في أي جامعة درستَ الإخراج .؟! كدلالة على تفاعله الإيجابي الكبير وإعجابه بالعمل. واستغربَ كثيرا ً حين أجبته أنني لم أدرس الإخراج نهائيا ً ، واستغرب أكثر حين أعلمته أنني خريج جامعة دمشق باختصاص علم نفس ، ثم أضفت ، ولكنني أدَّعي أمام أدونيس أنني قرأتُ أدونيس بعمق ، ولعلي أحد قرَّائه الجيدين - من ضمن من قرأه في العالم.
لذا أعيد القول : أنا لست مخرجا ً ، ولكنني أنظر إلى نفسي كباحث في سيكولوجيا الفنون ، ولي في نتاجي هذا ؛وفي اللاحق أيضا ً ،ما يؤكد ذلك - بكل ود..؟!!
وهذه التجربة - في النهاية ، ما هي إلاَّ نماذج وتجليات أولى ؛ للشكل الفيلمي المتعلق بمفهوم ( القصيدة الضوئية ) الذي أطمح - شخصياً - للوصول إليه.
وما أرجوه أن لا يكون التزامي العلمي بالخطوات المنهجية للبحث قد كبح جموح الخيال التصويري - البصري الذي أسعى إليه . وعلى المستوى الشخصي : أعتقد أنَّ هاجسي الرئيسي هو البحث في كيفية تلقي المادة الثقافية والإبداعية (مرئيا ً)، وهذا أمر لم يُبحث فيه بشكل جدي فيما أعلم، طبعا ً باستثناء الرواية والقصة ضمنا ً . وكثيرا ً ما أطرح على نفسي أسئلة من هذا النوع ، مثلا ً: ما هو الشكل الأنسب لتلقي اللوحة التشكيلية مرئيا ً بواسطة عين الكاميرا؛ بشرط المحافظة على روح اللوحة ؟!! وكذلك.. فيما يتعلق بالنص الشعري أو القصيدة ..!! ..إلخ.
وعموما ً : في الحياة ،كما في الفن ،كما في البحث العلمي – " ليس من أراد الجمال فاخطأ ... كمن أراد القبح فأصاب ".
ثانيا ً : القسم العملي ( التحليلي )
1- في قراءة التجربة وصعوباتها :
لا تبدو الصعوبة التي واجهت الغضبان بوصفها صعوبة وحيدة مفردة ، بل تظهر كطبقات متعددة تكاد تكون ممتزجة مع بعضها البعض .
1- 1 -الأولى :
فالصعوبة الأولى هي (صعوبة تشكيلية ) إذا صح التعبير؛ وهي قيام الغضبان بمزج (اللوحات الفنية - الكولاج ) التي اصطلح أدونيس لها اسم ( الرُّقيمات ) - مع نصوص شعره ، علما ً أنَّ هناك من لا يَعِرف أو ربما- لا يعتَّرف أن َّ أدونيس هو فنان تشكيلي كبير؛ بشكل مستقل عن كونه شاعرا ً كبيرا ً أيضا ً، وذلك برأينا يعود إلى قصور إدراك هؤلاء البعض في تقبُّل الجماليات الجديدة ومفاهيمها الحديثة في عصر المعلومات - وهذا ما دعانا إلى التوسع بعض الشيء في بداية هذا المقال النقدي فيما يخصُّ - علاقة الشعر بالسينما وبالكلام عن المفاهيم الجمالية الحديثة - وبالتالي ؛ فإنَّ تقليدية هؤلاء البعض؛ في النظر إلى اللوحة التشكيلية - والذين لا يستطيعون الاعتراف بها ؛إلا بوصفها : "إطارا ً خشبيا ً مملوءا ً بمعجون الألوان ..!!!" والمنسجمة مع طريقة تلقيهم القديمة ، هـو الذي يقف حائلا ً بينهم وبين إدراك المفاهيم الجمالية الجديدة .!!
فكيف والحال هنا ، أن هذه المحاولة هي المرة الأولى- في حدود ما نعلم - التي تحاول التفاعل مع أعمال أدونيس الفنية التشكيلية ؛ بالتزامن مع تفاعلها ( فيلميا ً ) مع شعره ، بهذا الطريقة الجديدة .
وعلى مستوى آخر؛ وفي هذا السياق نسأل : هل أن شهرة أدونيس الشعرية كانت حجابا ًعلى أهمية أعماله الفنية، ما جعل الكثير من النقاد يحجمون عن تناول تجربته الفنية التشكيلية ..؟!!
ترى وعلى مستوى مختلف أيضا ً، هل يعود ذلك إلى تأخر إطلاق أدونيس أعماله الفنية التشكيلية ( الرُّقيمات ) مقارنة ً بمنجزه الشعري الذي " مَـلأَ الدنيا وشغل الناس " ..؟!!!
1-2- الثانية :
-الصعوبة الأخرى التي واجهت الغضبان كما نرى : هي في التفاعل مع نص من وزن النَّص الأدونيسي ، وهو ما يُعقِّد المهمَّة ويجعلها مُركـَّبة ، وذلك لغنى هذا النَّص وتشابك أطروحاته الجمالية وتعددها بالوقت نفسه .
-فعلى المستوى الأول كيف يُقدِمُ الغضبان على تقديم أدونيس- الشاعر : ( النخبوي العصي الصَّعب المُستغلقَة نصوصهُ- حتى على الشريحة الأوسع من القراء و المثقفين ... إلخ )
كيف يُقدِمُ الغضبان على تقديمه بهذا الشكل :( السلس الهادئ الممتع الجميل الغريب الأليف؟!) وكيف تتفتَّح نصوصُ ( مهيار الدمشقي وكتاب الهجرة والمطابقات وأول الجسد آخر البحر والتجربة الأعقد ؛ الكتاب : أمس المكان الآن ) . كيف تتفتَّحُ على يديّ الغضبان ( قصائد َ ضوئية ) ؟! مستساغةُ التلقي ؛ حتى للشريحة - التي ربما لم تستسغْ شعر أدونيس في حياتها من قبل ..؟!
ترى ... وكيف سيواجه الغضبان ؛ هؤلاء الذين لا ينظرون- ولا يُريدون النظر إلى نص أدونيس ، إلا بوصفه نصا ً غامضا ً مبهما ً ... يستحيل فهمه وتلقيه ؟!!وهم بالمناسبة أكثر مما يُظن .!!
-إنه سؤال، لربَّما يحتاج تفسيره إلى تحليل سيكولوجي عميق يتصل بدراسات تتعلق بصورة الشخصية في أعين الآخرين، وكسر نمطيتها السائدة وأثر ذلك عليها فيما بعد ..إلخ " وهذا أمر آخر لا مجال له هنا .
وعلى المستوى الثاني : فالصعوبة هنا ؛ تتعلق بالجرأة التي جعلت الغضبان يُقدم على هذه التجربة ، وجعلته يتفاعل مع نص له فرادته وخصوصيته المائزة في الشعرية العربية – وهنا تتصاعد الصعوبة و تتأكد على نحو ما ؛من خلال تفاعل النص الأدونيسي نفسه ؛وتَحَاورَه مع مُنجز العلوم العصرية الحديثة : أدبية وعلمية وفنية - على اختلافها وتنوعها - إلى الدرجة التي نعتقد أن المنجز الشعري الأدونيسي هو أحد أهم المنجزات الشعرية العربية في تفاعلها مع التقنية العلمية ، ولقد اعترف الغضبان بهذه الصعوبة أثناء حواري معه - والذي أثبتنا قسماً منه ، بما يناسب هذه الدراسة- على أن نقوم بنشره كاملا ً في وقت لاحق - حيث أكدَ: " لعلَّ هذا ما حذا بناقد من وزن ( البرفيسور: كمال أبو ديب ) إلى إفراد (توصيف مستقل ) لتحليل الصورة الشعرية عند أدونيس ، من خلال اقتراح مصطلح خاص به حين الكلام عن الصورة الشعرية عنده ، حيث يقول الناقد ( كمال أبو ديب ) ما نصُّه الحرفي :
" هكذا تجتاح شاعريته ( أدونيس ) الأكوان لتنتج ، بمنتهى الهدوء ، ودونما صخب أو إدعاء أو لفت للنظر، هذه الصور الشاهقة كجبال السماوات السابعات ، التي تستحق أن تُخصص بمصطلح مائز . وسأسميها : الصورة الكونية " ( cosmological ) . و " هكذا تصبح الاستعارة عند أدونيس آلة كونية تعجن العالم كله، الفضاء وما فيه ، العناصر الأربعة ، القوى الطبيعية الخارقة ، آلهة الشعوب القديمة ... تصير اللغة سيدة العالم فعلا ً وخالقته فعلا ً . ولا تبقى حدود عقائدية أو تطيُّرية أو أسطورية المنشأ بين اللغة وطاقاتها الحقيقية . تتحرر اللغة والخيال الخلاق من حدود الطغيان الديني والسياسي والاجتماعي " ..إلخ
1-3- الثالثة :
أما الصعوبة الثالثة : وهي الأهم على الإطلاق ، فإنها تتأتى بشكل مباشر ؛من طبيعة الفروقات بين بُنية الصورة الشعرية وبُنية الصورة السينمائية ؛على الرغم من وجود العلاقة الكبيرة بين الشعر والسينما ؛ كما ذكرنا .
إذ يجب أن نلاحظ أنّ تركيب الصورة الشعرية يخلو من الوسيط التقني ، رغم حيادية الإبداعي، وهذا الخلوُّ يجعل من الصورة الشعرية أقرب إلى طبيعة الإبداع من حيث هو حرية مشروطة بوجودها، أما تركيب الصورة الفيلمية السينمائية، فهو مبنيٌّ على تقنية الوسيط (الكاميرا، وطبيعة الضوء، والآلا ت ، وما إليها ) . ويفضي هذا البناء لزوما ً إلى تقييد الإمكان الإبداعيّ، مهما كانت الآلة مُحايدة، فالوسيط بوصفه عائقاً مادياً للإبداع، يقطع الطريق على حرية الخيال، أو يقيِّدها، وهو ما يمكن أن يتوهَّمه القارئ حتى في الشعر، ولكنّ الحقيقة، أن الطبيعة المادية للتركيب الشعريّ (الأصوات، ورموز الكتابة، والبياض) ليست خارجية، ولا هي مختلفة عن الصورة ؛فالأصوات والحروف المكتوبة، ليست وسيطاً، وإن بدت كذلك. وإنما هي الصورة الشعرية ذاتها، بمعنى، ثمة تطابق في تركيب الصورة الشعرية بينها وبين أدواتها، ووسائطها المادية، أما الصورة السينمائية، فثمة مفارقة كبيرة بين الأداة، والوسائط وما ينشأ من صور من خلالها،هو ما يُفضي إلى اختلاف مُتأصل بين الصورتين ويؤثر في المُحصِّلة على طريق المقارنة بينهما في حال السعي إلى سينمائية النص الشعري .
وعليه ؛ وهنا- سنثبت الرأي الذي يدَّعي استحالة أو صعوبة ( سينمة الشعري ) والذي يتلخص : " بأنَّ حرية الفنان السينمائي الإبداعية في التعامل مع قسرية التقني ، والتحايل على سطوته، تفقد كثيرا ً من إدهاشها، وبراعتها في حال سينَمتها لما هو خارج عنها، وهو الشعريّ، لأنَّ حرية الشعريّ في ذاته، عندما كان قصيدة، بإطلاقها، وثرائها، لا تجد إلا صياغة تعبيرية واحدة، هي (الصورة المرئية المحسوسة) الواجب توافر معطياتها الدلالية وفق محددات الوسيط من إضاءة، وديكور، وطبيعة ألوان، وحركة كاميرا، وما إلى ذلك من قيود ، ومن هنا تبرز بجلاء صعوبة ( سينمة الشعري) ، فإذا كان الإبداع مشروطاً بالحرية أصالة، فإنّ ( سَينمة الشعر) تَسعى عكس هذا التيار، عندما تنطلق من الحرِّ المُطلق المفتوح، إلى المقيَّد،المُغلق، الأسير داخل الطبيعة التقنية لوسيطها التعبيري."
- وفي ردِّنا على الرأي السالف نقول : قد يبدو هذا الكلام صحيحا ً على نحو جزئي ؛ في حال أعتمد المخرج في بناء (لقطته الفيلمية ) على بنية طبقية مفردة ، كما في حال أي فيلم روائي أو تسجيلي ، والأمثلة كثيرة ، ولكن إذا اعتمد تصورا ً إدراكيا ً جديدا ً ورؤية جديدة ،ونظام بناء جديد للقطته الفيلمية ؛ ؛ فسوف تكون النتيجة مختلفة، وهذا ما فعله (المخرج :الغضبان ) حيث عمد إلى اقتراح ( لقطة فيلمية : تعتمد بنية طبقية متعددة ؛لكنها موظفة بنائيا ً)، لأن َّ هذه اللقطة مشروطة بنيويَّا ً بمحتوى النص الشعري وإشاراته المجازية الجمالية ، كونها تنهل من التعدد الدلالي والإيحائي والرمزي للنص الشعري المتمازج مع المرسوم الخطي في اللوحة ؛ و تنبثق من البنية الجمالية الكلية للعمل ورؤياه العامة .
لتتحول (الصورة الشعرية) في النص إلى (صورة ضوئية ) في الفيلم ؛ تتميز بالغنى والثراء الرمزي والدلالي والإشاري بالإضافة إلى التوازن البنائي في تكوين الكادر والتشكيل الإيقاعي - الوظيفي اللوني ، والانسجام البصري بين جميع المفردات والمكونات والعناصر المرئية .
-وعليه وبالرغم من تلك الصعوبة السالفة ، نرى (المخرج : الغضبان ) يُقدم على هذه التجربة الإبداعية ، مجترِحا ً أدواته الخاصة ومقدِّما ً - نموذجا ً إدركيا ً جديدا ً ، في طريقة التلقي الإبداعي الشعري –عبر اقتراحه المرئي في هذه التجربة المغامرة ، بمشاركة شاعرنا الكبير أدونيس .
أدونيس الذي رفض في اللحظة الأخيرة- من قبل عدة أعوام- عرض فيلم تسجيلي أُنجزَ عنه ؛ مع واحدة من أعرق المحطات الفضائية العربية ، بعد أن شاهدهُ مُنجزا ً ليَعترض على الصياغة الإخراجية له ، فيمنع عرضه ، ها هو يُقدِم على التعاون مع فنان شاب وبمبادرة فردية ليشاركه إنجاز ( أدونيس : سياسة الضوء ).
علما ً أن َّ هذا الفنان الشاب لا ينطلق من ميدان ( الإخراج ) كما يقول - بل من ميدان آخر هو (سيكولوجيا الفنون ) على الرغم من تصريح أدونيس نفسه ؛عن هذه التجربة- بأنها : " جديدة ومبتكرة ، وغير مسبوقة عالميا ً ".
- ترى ... كيف جاء الغضبان إلى هذه التجربة وما هي الأدوات التي استخدمها وكيف تفاعل معها ..؟!!
- ثمَّ.. هل يمكن إيجاد ( باراديغم : paradigm) خاص بهذه التجربة ..؟!
2- مقاربة تحليلية تطبيقية :
1-2- في البحث عن ( باراديغم : paradigm) لتجربة ( أدونيس ... سياسة الضوء )
يمزج الغضبان بين منجزي أدونيس ( التشكيل والشعر ) عبر صيغة فيلمية جديدة أطلق عليها ( القصيدة الضوئية ) كتوصيف فيلمي ، كما مرَّ آنفا ً
يَعمد الغضبان في بنائه (لقصيدته الضوئية) وبالتالي ( الديوان الضوئي ) ككل؛ إلى مجموعة إجراءات نظرية وممارسات فيلمية – وهي ما يمكن أن تمثل جملة أنساق التصورات الإدراكية الخاصة بهذا العمل والتي تشكل بمجموعها ( باراديغم : paradigm)
2-2- ما ( الباراديغم ) ..؟!
يمكن ترجمة مصطلح (الباراديغم ) أو(بارادايم ) (paradigm ) بأنه ( النموذج الإدراكي) أو (النموذج الفكري) كما يرد ذلك في موسوعة المعرفة الإلكترونية ، وقد ظهرت هذه الكلمة منذ أواخر الستينات من القرن العشرين في اللغة الإنجليزية بمفهوم جديد ليشير إلى أي نمط تفكير ضمن أي تخصص علمي أو موضوع متصل بنظرية المعرفة أو الإبستيمولوجيا. ولقد أعطى الفيلسوف العلمي ( توماس كوهين) لهذه الكلمة معناها المعاصر عندما استخدمها للإشارة إلى مجموعة الممارسات التي تحدد أي تخصص علمي خلال فترة معينة من الوقت.
وقد قام ( كوهين ) بتعريف النموذج الفكري أو الإدراكي ( البارادايم) في كتابه (بنية الثورات العلمية) على إنه: الموضوع الذي يمكن مراقبته ونقده . أو الأسئلة التي من المفترض طرحها واستكشافها من أجل الوصول إلى إجابات فيما يتعلق بالموضوع .وكيفية تحديد هيكل وبنية هذه الأسئلة ثم َّ كيفية تفسير نتائج التحريات العلمية .
فالباراديغم ، بالمعنى الذي طرحه ( كوهين ) هو ليس النظرية السائدة الحالية ، بل هو الرؤية الجديدة للموضوع ، و التي تحتوي على هذه النظرية ، و كل المعاني المتضمنة داخل هذه الرؤية.
- و( الباراديغم) في فلسفة المعرفة ،ليس سوى التصوُّر أو الرؤية الكونية. وهو يخترِق بذلك شتّى حقول المعرفة. و( الباراديغم )هو نظام تشغيل البرامج في أقصى تحوّلات تقانة المعلومات اليوم، و( الباراديغم ) هو في العلوم الرياضية المصفوفة أو( Matrice) وهو في العلوم الاجتماعية ما يفيد "التصوّر الشامل" أو" كيفيّة إدراك العالم".. وفي هذا الإطار- وكما يؤكد الناقد جمال باروت، يمكن الحديث عن باراديغم "رومنتيكي" و"وجداني" و"رؤيوي" و"يومي" .. إلخ . وبالمعنى العام فإن (الباراديغم) : هو نسقٌ من التصوّرات المقبولة عموما ً في مجالٍ بعينه.
وقبل تحديد (الباراديغم ) العام في تجربة (الباحث ؛المخرج: الغضبان) يجب تحديد أهم الإجراءات النظرية والممارسات الفيلمية التي أعتمدها عمليا ً والتي كوَّنت بمجملها (نسق التصورات الجمالية ) لهذه التجربة الجديدة .
3-2- أهم الإجراءات النظرية والممارسات الفيلمية لتجربة الغضبان:
-* أعتمد الغضبان في اختياراته الشعرية لنصوص أدونيس على ( القصائد القصيرة ) من مجموع (الأعمال الشعرية الكاملة لأدونيس) – وهذا يعود إلى الفروض المنهجية للبحث العلمي الذي يعدُّه الباحث عن شعر أدونيس، وحدوده المنهجية ، بما يتكامل مع الرؤية الإخراجية المقترحة .
-* اعتمد الغضبان في اختياراته لأعمال أدونيس التشكيلية ( الرُّقيمات )، على مجموعة أعمال مُنجزة بين عامي ( 2005 -2009 ) علما ً ؛أن بعض الأعمال أنجزت خصيصا ً لاستخدامها في هذا العمل ( أدونيس ... سياسة الضوء ) .
-*عَمدَ ( الغضبان ) إلى وضع مجموعة قوانين لونية – نفسية تخصُّ الإيقاع النفسي للقصيدة الشعرية المختارة ( بتصاعده أو تخافته أو توتره أو تشظِّيه ).
وخصَّ اختيار قانون لوني : (مجموعة ألوان محددة الظهور بتتالي ) لكل مادة فيلمية على حدة ، حيث رَتبَّها بالاستناد إلى عدد من الاختبارات والروائز اللونية - النفسية العالمية ، على أن تتطابق مع الإيقاع النفسي للنص الشعري وطبقَّها على المادة الفيلمية للقصيدة الضوئية الخاصة به. ولكني- اعتقد- أنه يتوجب علينا مشاهدة العمل كاملاً حتى يتضح ذلك بشكل جلي .
-*فعل نفس الشيء – فيما يتعلق بكل ( شارة : للقصيدة المعنية ) على حدة ، بالاستناد إلى النص الافتتاحي المرافق لها– باستثناء ثلاث قصائد منها قصيدة ( أول الشعر ) وسيرد تعليل ذلك أثناء تحليلنا لها
-* عمد المخرج إلى إيجاد ( المعادل الرمزي المرئي ) لكل نص شعري على حدة بما يتكامل مع بنية النص وإشاراته الرمزية وإيحاءاته التعبيرية الدرامية .
-فالجملة المفتاحية ( للمعادل الرمزي المرئي ) لنص ( أول الشعر ) مثلاً : هي " أن تخلخل المدى " وسيرد تفصيل ذلك تاليا ً .
-والجملة المفتاحية ( للمعادل الرمزي المرئي ) لنص ( الصخرة ) هي : " صخرة حبي تاهت " التي تُحيلُ إلى " صخرة سيزيف " في صحراء عروقي" حيث رمز لها ( بعالم الطفولة والأحلام ) من خلال الطفلين الذين ينحدران مبتعدين عنه.ثمَّ في المشهد الثاني تتحول (الشخصية : الممثل ) إلى صخرة سيزيف ، التي تنحدر من أعلى التل إلى أسفله فيما (الأحلام : الأطفال ) تدير ظهرها له أثناء صعودها ؛أَعلى التل .فيما يبقى الشاعر أسفل التل ؛ عند نقطة حدود اليابسة والماء ، إلى أن يخرج من الكادر نهائياً.
-والجملة المفتاحية ( للمعادل الرمزي المرئي ) لنص ( بعد هذا التشرد) هي : "أمشي غريبا ً... لا عزاء ولا أتشكى "حيث ينفصل أدونيس عن نفسه ، ويسير وحيدا ً... بصحبة غربته ، التي رمز لها ( بظل أدونيس ) الذي أنفصل عنه بعد أن سُحِبتْ ألوانهُ وظهر( كشبح يسير وحيدا ً ) إلى أن يخرج من الكادر.
- والكلمة المفتاحية لنص ( الإشارة ) هو عنوان النص نفسه ، الذي يحيل إلى (مفهوم المعنى ) الذي يمزج بين الثلوج والنار ، ويسكن في الأزهار والحجارة، حيث عمد المخرج إلى التعبير عن (المعادل الرمزي المرئي ) من خلال تكنيك تداخل طبقات اللقطات مع بعضها البعض بما يعطي تأثير المزج والتداخل بين عوالم المعنى الشعري المتعدد وبين عوالم الشخصية؛ الشاعر، عبر الإشارة :الأسطورية الواقعية بآن واحد حيث ( نار الشعر) تخترق الحدود الأرضية وصولاً إلى الكواكب والنجوم ، سفرا ً إلى اللانهاية .
وهكذا يعمد الغضبان إلى إيجاد لمعادل الرمزي المرئي لكامل القصائد المختارة ؟!
ففي كل نص شعري يسعى المخرج - الباحث ؛إلى إيجاد ( المعادل الرمزي المرئي ) للنص والعمل عليه فيلميا ًبالتكامل مع السيناريو البصري الخاص به.
ولكن يجب الانتباه أن َّ( المعادل الرمزي المرئي ) يمكن أن لا يتمظهر - استعارياً أي : (مشهديا ً ... على نحو غير مألوف) كما في قصيدة (أول الكلام ) مثلا ً، بل يمكن أن يتمظهر بشكل ( مؤثر لوني عالي التحوير) كما في قصيدة ( زهرة الكيمياء ) ولعل هذا النموذج الفيلمي ،هو الذي أبعد العمل أو التجربة؛ عن ذهنية العرض التلفزيوني ،وقرَّبه من استكشاف الفضاءات الجديدة للفيديو آرت.
-*أيضا ً استخدم المخرج الغضبان ( اللوحة : الرقيمة ) كمسرح متحرك " تبدأ منه حركة الكاميرا وتنتهي فيه " و تجري عليه وفيه الإيحاءات التعبيرية - الشبه درامية للمحتوى الشعوري الرمزي الإشاري الانفعالي للنص الشعري.
وهو بهذه العملية إنَّما أعطى ( اللوحة : الرقيمة) وظيفة بلاغية استعارية – نفسية ؛ حين جعل اللوحة بمثابة ( اللاشعور الجمعي الإشاري للنص الشعري الضوئي – الخاص بالقصيدة ) بما تختزنه اللوحة من مرسومات خطية ومواد مختلفة أخرى لصَقَها أدونيس على سطح اللوحة وخطَّ عليها كلماته المختارة، ساهمت مجتمعة ً بتشكيل التكوين النهائي ( للوحة : الرقيمة ) التي تجري عليها وفيها كامل الإيحاءات الإشارية الرمزية الدلالية ، بما فيها حضور أدونيس الواقعي : ( بهيئته وشكله وجسمه وحركته ) بالإضافة إلى الحضور المجازي ( للشاعر : بطل القصيدة ) الذي يشير إليه نص أدونيس مقروءا ً بصوته .
*وهنا نلاحظ : لعلَّ استخدام الغضبان ( للوحة: الرقيمة ) كمسرح متحرك ، هو الذي أنقذ ( بنية اللقطة )عنده من الكناية المحايدة ، وحولها إلى استعارة حيوية أنعكس ذلك على (بنية اللقطات ) الفيلمية للعمل ككل . إذ بَرَّرَ (الغضبان) للقطة الفيلمية - وظيفيا ً - أن تتحول من لقطة ذات طبقة مفردة إلى لقطة متعددة الطبقات ، وبالتالي متعددة الإشارات والإيحاءات و الوظائف بآن واحد .، وهنا نَلمحُ الإفادة الذكية للمخرج من فن ( الفيديو آرت ) وتوظيف ذلك في التخليق الإخراجي للمادة الفيلمية .وعلى مستوى آخر لعلَّ هذا ما أبعده عن حرفية الموقف التشبيهي الكنائي فيلمياً؛ وقاده إلى فضاء الاستعارة والمجاز المطلق في عمله .
* اعتمد الغضبان سيناريو بصريا ً بإيحاء درامي، بما ينسجم مع الإيقاع النفسي للنص الشعري ، ويتكامل مع الإيقاع الموسيقي ؛المختلف باختلاف القصيدة ،حيث الاختيار اللافت للمادة الموسيقية هو أيضا ًمن أبطال العمل ، ما ساهم بإضفاء أناقة الشكل الخارجي ( السمعي ) وعمق المحتوى الداخلي ( البصري ) وغنى دلالته التعبيرية وثراء بنياته الجمالية .
أخيرا ً:
-* اعتمد الغضبان على نظام ( المنفصل - المتصل ) للديوان الضوئي ككل؛من خلا ل– اختياره المدة الزمنية القصيرة – حيث لا يتجاوز زمن ( القصيدة الضوئية ) الواحدة السبع دقائق مع شارتي : البداية والنهاية؛ وهذا ما ساهم في رشاقة وحيوية العرض الفيلمي وقابليته للتكرار والإعادة الدائمة - وهو ما أطلقنا عليه صفة ( اللازمنية ).