الوطن والمواطنة.... رؤية كوزموبوليتية
ترى الفيلسوفة وأستاذة العلوم السياسية في جامعة ييل الأمريكية، شيلا بن حبيب، أنَّ هناك قصورا في تطور الديمقراطية الألمانية فيما يتعلق بحقوق المهاجرين. كما تطالب بمنح الأجانب المقيمين في البلاد حقّ المشاركة في الانتخاب البلدية ومساواة الإسلام مؤسساتيا مع الديانات الأخرى. دينيز أوتلو حاور شيلا بن حبيب حول هذه القضايا.
"تفتقر ألمانيا قبل كلِّ شيء إلى جدل نقدي يتعلق بالخطاب السياسي وتوجهات المجتمع"
السيدة ابن حبيب، في أواخر فترة السبعينيات وبداية فترة الثمانينيات، كنت حاصلة على منحة دراسية في فرانكفورت، والآن وبعد إقامة طويلة في الولايات المتَّحدة الأمريكية أنت زميلة زائرة في أكاديمية العلوم في برلين. فما هي التطوّرات التي حقَّقتها ألمانيا في هذه الفترة؟
شيلا بن حبيب: الثقافة السياسية في ألمانيا تغيَّرت كثيرًا. وبعد إعادة توحيد شطري البلاد أصبحت ألمانيا تميل أكثر إلى التأمّل ومراقبة ذاتها، كما أنَّ الجدالات السياسية لم تعد شديدة مثلما كانت في السابق، وصار الجدال حول الدين يطغى في يومنا هذا على الخطاب العام. ولكن ألمانيا تفتقر قبل كلِّ شيء إلى جدل نقدي في الخطاب السياسي الألماني وتوجهات المجتمع وهو ما يتعلق أيضا بنهاية الإيديولوجية الاجتماعية الماركسية بوصفها بديلاً للنظام السياسي الحالي.
من أين يجب أن يبدأ في يومنا هذا الجدل النقدي؟
ابن حبيب: يجب أن ينطلق هذا النقد من نقطة محدودية التغيير في عقلية المجتمع الألماني وقصور التطور الديمقراطي المتعلق بالمشاركة السياسية. وهنا يتم التظاهر بأنَّ المرء لا يواجه أي صعوبات مع مفهوم الديمقراطية الليبرالية ومتعدِّدة الثقافات. وأنا لا أعتقد بذلك. وهكذا يدور الحديث دائمًا في النقاش العام على سبيل المثال حول "التراث المسيحي اليهودي". ولكن التراث اليهودي غير حاضر على هذا النحو مثلما يتم وصفه بصورة عامة.
وعلاوة على ذلك ما يزال يوجد في ألمانيا مشكلة مفادها أنَّ الإسلام أو المسلمين يعتبرون "مختلفين". وهنا يتم توظيف خطاب التعدّدية الثقافية كأداة؛ حيث يرى المرء أنه من أجل التطوّر الرأسمالي العالمي لا بد من دعم شرائح سكَّانية معيَّنة، مثل العلماء والمهندسين القادمين من الهند. وهذا الموقف يمثِّل وسيلة، وليس موقفًا أساسيًا.
"هناك دول في الاتِّحاد الأوروبي، مثل هولندا وإيرلندا والسويد، منحت المقيمين غير المواطنين الحقّ في المشاركة في الانتخابات البلدية، بخلاف ألمانيا"
وعندما بدأ الانتقال في فترة الثمانينيات من مفهوم "العمالة الوافدة" إلى مفهوم "المواطنين الأجانب"، كان ذلك خطوة نحو تعدّدية مشروعة. ولكن في عام 1990 خلصت المحكمة الدستورية الألمانية إلى أنَّه لا يحقّ للأجانب التمتّع بحقّ المشاركة في الانتخاب البلدية. وفي فترة التسعينيات كان هناك تطوّران متناقضان. وفي البدء كان قانون التجنّس الجديد الذي رحَّبنا به جميعنا. ولكن عندما كان الناس يرغبون في التجنّس، حدثت مضايقات؛ حيث كانت هناك حملة كبيرة ضدّ حمل الجنسية المزدوجة. وعلى الرغم من أنَّ هذا القانون يستحقّ الترحيب، إلاَّ أنَّه لم يكن كافيًا من أجل خلق ديمقراطية تعدّدية في مجتمع الهجرة. فالتجنس ليس مجرَّد حالة سلبية تنتهي بالحصول على الجنسية، بل هي بالدرجة الأولى مشاركة سياسية واجتماعية فاعلة وهو هنا لا تتم ترجمته على أرض الواقع إلا في حدود ضيقة.
هل ينطبق ذلك على كلِّ جمهورية ألمانيا الاتِّحادية؟
ابن حبيب: ألمانيا دولة فيدرالية وينبغي أَلاَّ ننسى أنَّ هناك اختلافات كبيرة بين الولايات الألمانية. وهكذا يختلف في ألمانيا على سبيل المثال النظام الخاص بارتداء الحجاب في المؤسَّسات العامة من ولاية إلى أخرى. ولكن مع ذلك يدور النقاش حول الجنسية وحول المسلمين في ألمانيا برمَّتها بصورة غير منفتحة تمامًا. وتوجد خاصة تجاه المسلمات المتديِّنات أحكام مسبقة شديدة. والغالبية تنظر إلى النساء المحجَّبات على أنَّهن نساء رجعيات ومضطهدات يحتجن إلى الشفقة والرحمة.
في بعض البلدان الأوروبية، وتحديدًا في فرنسا وإبَّان أعمال الشغب التي وقعت في الضواحي، كانت هناك ميول لرؤية تناقض بين "كون الفرد مسلمًا" و"كونه أوروبيًا". فهل تعدّ هذه "مشكلة اندماج"، غالبًا ما يدور الحديث حولها، ولكنَّها كذلك مشكلة اندماج اجتماعي أكثر من كونه ثقافيا؟
"النقاش الدائر حول الإسلام في ألمانيا يُخفي مشكلات الاندماج ومشكلات اقتصادية اجتماعية"
ابن حبيب: نحن نتحَّدث الآن ولم يمض وقت بعيد على الخطاب الذي ألقاه باراك أوباما في القاهرة. وهناك أكَّد بصراحة أنَّه لم يكن يوجد في يومنا هذا ولا في أي وقت مضى تناقض بين كون الفرد مسلمًا وكونه في الوقت نفسه مواطنًا أمريكيًا. وتمامًا مثلما لا يشكِّل ذلك أيضًا أي تناقض بين كون الفرد مواطنًا أمريكيًا وكونه بوذيًا أو كونفشيوسيًا. ولكن الحال ليست كذلك في أوروبا؛ فبنية الدول الأوروبية المعاصرة متأثرة بشكل جوهري بمفهوم الدولة القومية القائم على أيدلوجيا المجانسة، بمعنى إذابة الفوارق العرقية والدينية وصهرها في إطار هوية محددة.
وعلاوة على ذلك إنَّ الذاكرة الجماعية متأثِّرة بصراعات التنافس القديمة بين أوروبا والدولة العثمانية. وبالإضافة إلى ذلك ما من شكّ على الإطلاق في أنَّ كلِّ النقاش الدائر حول "الإسلام" يُخفي مشكلات الاندماج ومشكلات اقتصادية اجتماعية خاصة بنقص التحرّك الاجتماعي لدى الشباب والناشئين المسلمين؛ ونحن لدينا هنا مشكلة طبقية لا يكاد يدور حولها الحديث.
لِمَ يبدو الخطاب الموضوعي والجدلي المتعلق بالتعدّدية الثقافية صعبًا إلى هذا الحدّ في ألمانيا؟
ابن حبيب: هذه مشكلة ذات أبعاد متعدِّدة. فمن ناحية إنَّ الاتِّحادات والجمعيات الإسلامية هي التي لا تشارك مشاركة كافية وبدافع عميق وتنويري في هذا النقاش. ومن ناحية أخرى فإنَّ الدولة هي التي يمكن أن تهتم بالتشوهات التي تطال هذا الخطاب. وفي حالة ألمانيا يعود ذلك على سبيل المثال إلى قدرة الكنيسة على الاستفادة من الضرائب في إطار مؤسساتي.
"انطلاقًا من المساواة يجب الاعتراف بالإسلام المنظم بشكل مؤسساتي في ألمانيا"
وإذا كانت الدولة الألمانية ترغب في ضمان المساواة وعدم الانحياز تجاه جميع الأديان، فعندئذ يصبح من المستحيل ألاّ تعترف بالإسلام المنظم بشكل مؤسساتي. وفي ألمانيا يقول المرء مرارًا وتكرارًا إنَّ هناك الكثير جدًا من التجمّعات والكثير جدًا من الجمعيات والمنظمات الإسلامية المتناقضة. وهذا الوضع لا يفيد كثيرًا، كما أنَّه لا يكاد يخلق التنوير. وانطلاقًا من المساواة يجب أن يتم الاعتراف بالإسلام كطائفة ومؤسَّسة موحَّدة. ومن الممكن أن يدور الحديث عن الشكل والنتائج، ولكن في البدء يجب أن يتم إلغاء هذا الشكل العام من أشكال عدم المساواة الذي يحول دون خوض النقاش.
في كتابك "حقوق الآخرين" تستندين إلى "حقّ المواطنة العالمية" للفيلسوف إيمانويل كانط. فما مدى اتِّباع ألمانيا للمثل العالمية - الكوزموبوليتية التي تعتبر بالنسبة لعملك مهمة جدًا؟
ابن حبيب: يعتمد جوهر الجدل العالمي - الكوزموبوليتي في يومنا هذا على المشاركة الديمقراطية. وتمييز كانط بين حقّ الضيف وحقّ الزائر لم يعد في يومنا هذا مقبولاً. فالضيف يعتبر دائمًا مواطنًا محتملاً. ويجب أن تكون هناك مؤسَّسات في المجتمع تمكِّن "الغريب الأجنبي"، أي "الآخر"، من أن يصبح عضوًا من أعضاء المجتمع. وهنا لا يتعلَّق الأمر بعالم من دون حدود وكذلك لا يتعلَّق بأنَّه لا يجوز أن تكون هناك شروط وقوانين على الإطلاق. ولكن يجب أن تتم صياغة مثل هذه الشروط والقوانين بصيغة تتوافق مع حقوق الإنسان وتراعي الديمقراطية بقدر الإمكان.
هل من مثال على ذلك؟
"في اختبار الجنسية تمت صياغة أسئلة صعبة للغاية، حتى إن قسما كبيرا من المواطنين الألمان يصعب عليهم الإجابة عنها"
ابن حبيب: من خلال استغلال مبدأ شرط اللغة، إذ تمت صياغة أسئلة صعبة للغاية من أجل اختبار المعرفة باللغة الألمانية في عملية الحصول على الجنسية الألمانية، بحث أنَّه لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة حتى من قبل قسم كبير من المواطنين الألمان. وهذا مجرَّد مثال على تشويه الديمقراطية.
ما الذي يحدث أيضًا مع حقوق "الآخرين" في ألمانيا؟
ابن حبيب: نحن نرى في عصر العولمة نشوء أشكال مختلفة من التجنيس السياسي ومنح العضوية. ومن الممكن أن تشكِّل الجنسية الوطنية قمة التسلسل الهرمي، ولكن توجد أيضًا أشكال أخرى؛ حيث يوجد أشخاص يقضون كلَّ حياتهم كأجانب يتمتَّعون بحقّ الإقامة في هذا البلد. وفي داخل الاتِّحاد الأوروبي تم تحديد وضع رعايا الدول الأخرى في البدء بشكل مختلف من بلد إلى بلد آخر، قبل أن يجري "التنسيق" بين هذه الدول في هذا الخصوص في نهاية فترة التسعينيات. فحقوق الإنسان تنطبق على جميع الناس، وليس فقط على المواطنين وحدهم.
وعلاوة على ذلك لقد تم إجراء توحيد في الحقوق الاجتماعية والمدنية، مثل الحقّ في حرية التنقّل داخل حدود الاتِّحاد الأوروبي. ولكن في الحقيقة هناك مجال لم يتم فيه إجراء أي تنسيق؛ وهو حقّ المشاركة في الانتخابات البلدية. فهناك دول في الاتِّحاد الأوروبي، مثل هولندا وإيرلندا والسويد، منحت المقيمين غير المواطنين الحقّ في المشاركة في الانتخابات البلدية ولكن فرنسا وألمانيا لم تعملا بهذا الأمر.
لِمَ يحظ حقّ المشاركة في الانتخابات البلدية بهذا القدر من الأهمية؟
ابن حبيب: لننظر إلى ألمانيا؛ فإذا قُدِّر لانضمام تركيا إلى الاتِّحاد الأوروبي أن يمنى بالفشل، فسيكون هناك في برلين وحدها أكثر من مليون شخص لا يتمتَّعون بصوت ديمقراطي بشكل دائم. وفي ألمانيا عامة يصل عدد هؤلاء الأشخاص إلى مليوني ونصف المليون شخص. ونظريًا هذا الأمر غير مقبول من الناحية الديمقراطية. فالديمقراطية تعني أنَّه يجب علينا أن نحاول باستمرار تجاوز الفجوة بين الذين يمارسون الحكم والذين يمارس الحكم باسمهم.
هل سيكون لهذا تأثيرات على عملية الاندماج؟
ابن حبيب: الاندماج السياسي يمثِّل عملية نتويرية. وعندما تتم مشاركة الأجانب في الانتخابات البلدية، فعندئذ سنتمكَّن أكثر من الوصول إلى بعض النقاشات التي يتم إجراؤها في اجتماعات خلف أبواب موصدة ولا نعرف عنها أي شيء. وأمام الناس تأخذ هذه النقاش منعطفًا مختلفًا. وهذه نقطة مهمة؛ وذلك لأنَّ وجهات نظر معينة وإيديولوجيات يمكن أن تفقد جاذبيَّتها. فالأفكار يجب أن تتوفَّر للرأي العام الليبرالي والديمقراطي. ومن خلال ذلك سيتسنى الفصل بين ما هو مقبول وما هو غير مقبول. ويجب أن تتم مناقشة هذه الموضوعات، وليس فقط وباستمرار مناقشة الموضوعات اللاهوتية.
"التجنس يعني أيضا المشاركة السياسية الفاعلة"
ولكن ماذا عن المواطنين الألمان الذين وعلى الرغم من ذلك يُنظر إليهم وتتم مخاطبتهم على أنَّهم من "الآخرين"؟
ابن حبيب: نحن نتحدَّث هنا عن عمليات اجتماعية صعبة، يجب أن يتم خوض تجربتها في المؤسَّسات وفي المجالات الثقافية. وفي البداية أنا أعتبر نفسي اشتراكية ديمقراطية تقليدية؛ إذ إنَّني أؤمن على أي حال بقدرة التعليم التكاملية. وبعد ثلاثين عامًا أرى أنَّ هناك شبابًا يحقِّقون مستوى معيَّنا، ولهم أسماء مركَّبة، أو هويَّات مركَّبة. وهذا بحدِّ ذاته جيّد على هذا النحو، ولكن الأمور لا تسير أكثر أو أسرع بما فيه الكفاية.
ونظام التعليم الألماني مُرتَّب ترتيبًا هرميًا بشكل غير معقول؛ حيث يتم في فترة مبكِّرة جدًا فصل الناس عن بعضهم بعضًا وتصنيفهم حسب كفاءاتهم. وهذا النظام لا يسمح إلى حدّ ما بفرص الرقي الاجتماعي التي تعتبر ضرورية بالنسبة لمجتمع الهجرة. وفي الوقت نفسه من الصعب الفصل في ألمانيا بين الجنسية بمعنى المشاركة الشعبية الفعَّالة وبين القومية. وأيضًا في هذا الصدد يجب البدء بعملية الدمقرطة؛ بحيث يتم الاعتراف بهذه الهويَّات المركَّبة وتعدّد الجنسية في مجتمع حديث.
هل تقصدين الاعتراف وليس الإملاء؟
ابن حبيب: لقد كان بالنسبة لي من الممتع جدًا وأحيانًا من المهين تقريبًا أنَّه كان يتم دائمًا تقديمي في ألمانيا على أني يهودية تركية بدلاً من أن يتم وصفي كفيلسوفة أو أستاذة من جامعة ييل. وكانت أوَّل مرة في حياتي المهنية يتم فيها ذكر انتمائي العرقي - الذي لا أخفيه - هنا في ألمانيا. وإذا كان انتمائي العرقي مهمًا بالنسبة لفلسفتي، فمن المعقول أن يتم ذكره. ولكن هذا ليس إلاَّ مجرد أمر غريب. ويجب على الصحفيين وغيرهم من الناس في الإعلام الألماني توخي الحذر في طريقة استخدامهم هذه المفاهيم واستخدامهم مرارًا وتكرارًا مثل هذه الأوصاف وأنا لا أستطيع إلاَّ أن أعبر عن استغرابي من ذلك.
أجرى الحوار دينيز أوتلو
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: صحيفة فرايتاغ/قنطرة 2009
وُلدت شيلا بن حبيب في عام 1950 في إسطنبول، وتعمل أستاذة لمادة الفلسفة السياسية في جامعة ييل الأمريكية. وصدر لها مؤخرًا باللغة الألمانية كتاب بعنوان "حقوق الآخرين - الأجانب والمهاجرون والمواطنون Die Rechte der andern. Ausländer, Migranten, Bürger"، عن دار نشر Suhrkamp 2008. وفي هذا العام تم منحها جائزة إرنست بلوخ.