وصفات سحرية وطروحات هزلية
كتب تيلو زاراتسين كتاباً يحذر فيه من الانحدار والتدهور، لاسيما من قبل المهاجرين المسلمين الذين حملهم مسؤولية هذا الأمر، واصفا نفسه بالمنقذ والمخلص. غير أن مقترحاته لإنقاذ ألمانيا لا تساعد كثيراً. ماتياس دروبينسكي قرأ الكتاب ويقدم أهم ما جاء فيه.
"المشكلة الحقيقية هي موقف الكاتب الأساسي، الموضوعية المُدعاة، الإيمان الغيبي بالخلاص الذاتي"
أحياناً تخطر فكرة على بال شخص ما. وفي كثير من الأحيان لا تكون الفكرة غبية، أو على الأقل تكون في معظم الأحيان جديرة بالنقاش. ولكن شيئاً فظيعاً يحدث: هذه الفكرة تتملك الشخص الذي تمخضت قريحته عنها، ثم تستقل، وتزداد مع الأيام تطرفاً، وفي نهاية المطاف يصبح صاحبها عبداً فكرياً لها. هذا ما حدث مع نيكلا كيليك، الباحثة الاجتماعية التي نبهت في البداية الرأي العام إلى البؤس الذي تعيشه كثير من النساء المسلمات في ألمانيا، والآن تتحرق شوقاً إلى إلغاء الإسلام نفسه.
وهذا ما حدث أيضاً مع تيلو زاراتسين، وزير المالية السابق في ولاية برلين من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وعضو مجلس إدارة البنك المركزي حالياً. إنه يطالب متلقي المعونة الاجتماعية والمهاجرين، وعن حق، ببذل مزيد من الجهد وتحمل المسؤولية. واليوم يشيّد فلسفة اجتماعية مستنداً على أقواله، ساعياً إلى هدف كبير، وهو الحفاظ على الوطن الألماني. وها هو زاراتسين – السجين في أفكاره – يكتب كتاباً عن فلسفته تلك، ويقدمها بجلبة وضوضاء عظيمين بعد أن نشر مقاطع منها قبل ظهور الكتاب، ومن المؤكد أن يسجل كتابه الآن أرقام مبيعات عالية.
المهاجرون هم المذنبون
يحاول زاراتسين في الكتاب أن يدعّم الهجوم الذي شنه في الأعوام الماضية بالحجج والبراهين الجادة. وهكذا يكتظ الكتاب الذي يحمل عنوان "ألمانيا تُلغي نفسها" بالأرقام والأشكال التوضيحية والجداول، مثلما يكتظ بالأفكار النظرية المجردة. كل هذا يهدف إلى تقديم نظريته عن الانحدار والتدهور في ألمانيا بطريقة تدعو إلى التصديق، وباختصار شديد من الممكن أن نقول إن مضمون تلك النظرية هو أن ألمانيا تزداد غباءً مع الأيام، وأن البلاد ينقصها على وجه خاص مهندسين وكيميائيين ومخترعين ومبتكرين. والسبب في ذلك يرجع إلى أن خريجات الجامعة ينجبن أطفالاً أقل من اللازم، بينما تنجب النساء اللاتي يتلقين المعونة الاجتماعية أطفالاً أكثر من اللازم. إن المهاجرين هم الذين يتحملون المسؤولية الرئيسية عن ذلك، لأنهم لا يريدون أن يندمجوا، ولأنهم يفضلون أن يعيشوا بمعونة الدولة الألمانية في مجتمعات متوازية يترعرع فيها - إلى جانب الأطفال - العنف والأصولية.
أما السياسة الألمانية والمجتمع الألماني فإنهما لا يجرؤان على تغيير ذلك، لأن "الناس الخيرين الطيبين" هم الذين يسودون السياسة والمجتمع (طوال الكتاب يستخدم المؤلف هذا المصطلح باعتباره مرادفاً لكل ما يجده زاراتسين غبياً وساذجاً). غير أن البلاد لا تريد الإصغاء إلى زاراتسين، هذا الصارخ في البريّة، وسوف يرى الألمان عواقب ذلك.
سياسة شد الأحزمة
زاراتسين: يتحمل المهاجرون المسؤولية الرئيسية عن الانحدار لأنهم لا يريدون أن يندمجوا، ولأنهم يفضلون أن يعيشوا بمعونة الدولة الألمانية في مجتمعات متوازية يترعرع فيها - إلى جانب الأطفال - العنف والأصولية.
وبهذا ينتمي الكتاب إلى نوعية من الكتب تتحدث عن الانحدار والتدهور، تلك الكتب التي تجد صدى عند القراء، لأن الانحدار والتدهور خوف كامن في نفوس مَن يعيش في المجتمعات ميسورة الحال. هناك نماذج لأدب الانحدار والتدهور: المؤرخ الروماني تاسيتوس مثلاً قارن بين الجرمان الذين ما زالوا على سجيتهم والرومان الذين يعانون الانحطاط والتدهور. أوزفالد شبينغلر تحدث عن "انحدار الغرب" كعملية لا يمكن تجنبها في إطار صيرورة الحضارات وأفولها. أحس شبينغلر، مثله مثل تاسيتوس، بأنه مُنذر ومُحذّر، ولكن الناس لا يفهمونه، تماماً مثلما شعر العالم البيئي هربرت غرول في الثمانينات، وكما يشعر اليوم المؤلف زاراتسين ومعه الباحثة الاجتماعية كيليك.
كانت النظرة السوداوية هي التي جعلت من كتب الانحدار والتدهور التي كتبها شبينغلر وتاسيتوس أعمالاً أدبية. لقد ضاع شيء ما، هكذا قالا، وهذا الشيء لن يعود ثانيةً؛ الفناء مصير كل شيء، وهذا هو حال العالم. زاراتسين يفتقد هذه النظرة السوداوية، هذا ما يميز طاقته العدوانية. لا يكتب زاراتسين كما يكتب الفيلسوف المؤرخ، إنه يعتبر نفسه "تقنياً اجتماعياً"، ومصلح الروح الجماعية الخربة.
زاراتسين يقدم أيضاً وصفات العلاج: كنزة صوفية بدلاً من الدعم المالي للتدفئة، الانضباط في تناول المواد الكربوهيدراتية بدلاً من رفع مستوى التأمين الأساسي لدى متلقي المعونة الاجتماعية "هارتس 4"، عقوبات، ترحيلات، تخفيض المعونات الاجتماعية؛ أي أن زاراتسين لديه إجراءات يود تنفيذها.
موضوعية مُدعاة
"لا يكتب زاراتسين كما يكتب الفيلسوف المؤرخ، إنه يعتبر نفسه تقنياً اجتماعياً، ومصلح الروح الجماعية الخربة"
ورغم الإحصائيات العديدة التي يتضمنها الكتاب فإنه مليء بالأخطاء. أجمل اعتراف قام به زاراتسين يجده القارئ في صفحة 359/360، وذلك بعد أن أسهب المؤلف وأفاض في شرح نظريته التي تقول إن الأتراك سوف يجعلون من الألمان أقلية لأنهم ينجبون أطفالاً كثيرين. يقول زاراتسين عندئذ: "ليس هناك طريقة علمية موثوق بها تسمح لنا بأن نتنبأ بالسلوك الإنجابي والهجرة عبر عقود عديدة تنبؤاً يكمن الاعتماد عليه." نعم، هذا هو الحال، هذا ما يقوله كل باحث في علم الدراسات السكانية في أوروبا. ولكن زاراتسين شيّد كتابه حتى صفحة 358 على هذه النبوءة تحديداً!
لا يذكر المؤلف كلمة في كتابه عن ضعف اللغة الألمانية لدى عديد من الإيطاليين من الجيل الثاني أو الثالث – فهم ليسوا مسلمين على كل حال. لا يذكر كلمة عن أن عدد المهاجرين من ألمانيا يفوق في الوقت الحالي عدد المهاجرين إليها. القيام بأبحاث للتأكد من النظرية التي يتبناها المرء: هذا شيء لا يفعله حتى زاراتسين، عرّاف هذه البلاد وقارئ مستقبلها.
ولكن كل هذا ليس هو المشكلة، كل كتاب به أخطاء. وليست المشكلة أيضاً هي الخلل بين عظمة المهمة (إنقاذ ألمانيا) ومحدودية وصفات العلاج (تخفيض المعونة الاجتماعية). المشكلة الحقيقية هي موقف الكاتب الأساسي، الموضوعية المُدعاة، الإيمان الغيبي بالخلاص الذاتي: على الإنسان فقط أن يربط البراغي جيداً ويدير الأزرار الصحيحة، وعندئذ سيتوقف الانهيار.
ينتهي كتاب زاراتسين بجملة لاتينية يوجهها للساسة، وهي: "هنا رودوس، اقفز واسبح"، ويعني بها أن على مَن يعارضه أن يشير إلى الطريق الصحيح. يعد زاراتسين قارئ كتابه بالخلاص: ببعض الشدة وبعض الوصفات الناجعة سيتحسن حال الأمة. هذه هي الطيبة الإنسانية في نظر زاراتسين. إنها عكس كلمة "طيب".
ماتياس دروبينسكي
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: زود دويتشه تسايتونغ/ قنطرة 2010
تيلو زاراتسين: "ألمانيا تُلغي نفسها. كيف نخاطر بمستقبل بلدنا." دار نشر DVA، ميونيخ، 2010.