إسرائيل اليوم ليس ما كانته قبل أسابيع...
سهيل كيوان
لم نسمع صوت ليبرمان منذ انطلاقة ثورة مصر، كأن هناك من ضاق ذرعا بتصريحاته التي تذكّر المستمعين الكرام في كل مرة بتهديده لمصر مبارك بإلقاء قنبلة نووية على السد العالي، وتهديد الأردن بجعله وطناً بديلاً للفلسطينيين، وتبشيره عرب 48 بنية ترحيلهم عندما تسنح الفرصة، وطبعاً تهديد سورية وإيران وغزة وتركيا وبعض دول أمريكا اللاتينية وبهدلة بعض دبلوماسيي أوروبا، وكل من لا يعترف بحق إسرائيل بأن تتصرف كما يحلو لها تهمته جاهزة.
كأن هناك من قال لليبرمان...أعرنا سكوتك حتى نرى ما يحدث في مصر...ألا ترى الخازوق الهائل الذي يطل برأسه فجأة من هناك!
لقد اطمأن حكام إسرائيل إلى أن الحكام العرب لا يتزحزحون عن الحكم إلا بالضربة القاضية سكتة أو رصاصة (هذا قبل ضربة الفيسبوك..كما يقول أخوتنا المصريون)، فإذا قضى أحدهم نحبه ورثه من هو أكثر قمعاً لصوت وطاقات وقدرات شعبه ونهباً لخيرات بلده، لم ينتبهوا لثورة الاتصالات وإطلالة العربي رغم محاولات الحجب على ما يدور حوله في العالم من حريات ورخاء لدى شعوب ليست أعرق منه ولا أغنى أرضاً من أرضه، لم ينتبهوا إلى عامل الزمن وتحوّل'الفيس بوك'إلى أكبر تنظيم ثوري في المنطقة العربية بعد قمع أو تدجين قيادات الأحزاب الثورية سواء بالرشوات أو بالسجن والقتل! تجاهلوا تماما أن هناك شعوباً عربية وأن التربة الغالبة في هذه المنطقة هي الرمال المتحركة، لم يفهموا أن تحمل الإنسان العربي وصبره على التعب والجوع والحرمان والمصائب هي أمور في صلب ثقافته حتى خدعهم نزار قباني وظنوا بالفعل أن العرب ماتوا ولكن لم تعلن وفاتهم بتوصية من السي آي إيه!
لم يكن ليبرمان موجودا أيام حرب الاستنزاف، كان طفلا في مدرسة ابتدائية في مولدافيا، لم يسمع بمعركة (راس العش) بعد الهزيمة مباشرة، ولم يعرف من هو عبد المنعم رياض الذي أطلق اسمه على واحد من أكبر ميادين القاهرة، لم يسمع بمدرسة بحر البقر ولا مصانع أبو زعبل، ولا بالشيخ حافظ سلامة ولم يترنم دمه على أغنية يا بيوت السويس.
ليبرمان وصل إلى فلسطين عام 1978، ولا يستطيع أن يستوعب هو وشركاؤه حتى لو شرحت لهم ساعات لماذا يخفق قلب مراهق عربي في قرية في الجليل وتنهمر دموعه لأغنية شادية 'يا حبيبتي يا مصر'..!
كانت حكومة إسرائيل الحالية وحتى التغييرات الأخيرة التي طرأت عليها مقتنعة أن كل المؤشرات في المنطقة باتت في خدمة أفكارها الجهنمية ومخططاتها الأكثر تطرفاً وظلامية، فالجسد العربي مات وبالإمكان تقطيعه وتشريحه حتى دون أن يبدي أمارات ألم!
خططوا وفكّروا كما لو كانت الأنظمة مخلّدة، وبما أن كبير العرب ورئيس مخابراته (في الجيبة) فإن حجة المفاوض الفلسطيني للتراجع والتنازلات جاهزة، فإذا سُئل يوم فضح وثائقه لماذا تنازلت وبعت بأرخص الأثمان قال..إسألوا أخانا إنه أكبرنا ويعرف أكثر منا!
لهذا راح قادة إسرائيل يزاودون على بعضهم البعض بالتطرف والمراجل وطرح الحلول الأكثر إذلالا وأذى للفلسطينيين والعرب، وكما قال أخوتنا المصريون 'نتنياهو طلع له مخالب واحنا يا ناس حكامنا أرانب'.
فصار ذوو المخالب يطرحون أسئلة واستطلاعات رأي على الجمهور الإسرائيلي من طراز...هل توافق أم تعترض على ترحيل عرب 'أرض اسرائيل' إلى ما وراء الحدود؟ كأن الحديث يدور عن أبقار سائبة أو أقفاص دجاج يتشاورون في كيفية التخلص منها!
الآن وبعد ياسمين تونس و'الورد اللي فتح بجناين مصر' يحق لهم أن يقلقوا وأن يرتبكوا فقد خاب ظنهم بالشعوب العربية، وتبيّن بما لا يقبل الشك أن الرهان الحقيقي يكون على الشعوب وليس على الأنظمة مهما بدت راسخة في القمع.
الان نستطيع القول إن العتمة لم ولن تأتي على قد يد الحرامي. إسرائيل لن تستطيع التباهي بعد اليوم بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولن تستطيع أن تفعل ما يحلو لها من جرائم ثم تقول للعالم إن ما تفعله هو نقطة في بحر قمع الحكام العرب لشعوبهم!
ثورة تحرير الإنسان العربي التي نشهدها اليوم هي أهم وأعمق تأثيراً على المدى البعيد من حرب أكتوبر عام 1973 وما أسفرت عنه، وعندما يتحرر العرب من أنظمة الظلام والقمع والنهب الحقيرة بمختلف تجلياتها سيكون بإمكان النظام العربي الجديد أن يطالب بفم ملآن بالحرية والعدالة لشعب فلسطين، وسوف يسمعه العالم لأن مواطنيه أحرار في بلدهم، وعندما يطالب برفع الحصار عن شعب فلسطين سيكون مطلبه حقيقياً تتبعه إجراءات عملية وليس ضريبة كلامية للشعب من جهة وتآمرا وتنسيقا مخابراتيا وأمنيا مع الموساد والشاباك من جهة أخرى!
عندما يشبع المواطن العربي خبزاً وحرية في وطنه فهو لن يهاجر إلى الغرب مضطراً، وسيكون صوته أقوى وأعلى وأنظف وأكثر إقناعاً حيثما حل، وستكون سفارات العرب في خدمة مواطينها وحمايتهم وليست أوكارا لمطاردة معارضي الأنظمة...
ستنشأ ديمقراطيات عربية كثيرة وسوف نرى دعوات وتنظيمات على 'الفيس بوك' وغيره من وسائل إعلام لاتحاد عربي على غرار الإتحاد الأوروبي ستقوى عاماً بعد عام حتى تتحقق، وسيأتي يوم تكون المنطقة العربية كلها محيطاً من الحرية والرخاء وهذا أكبر داعم لنضال شعب فلسطين، وحينئذ سوف تمتاز إسرائيل وبوضوح تام عن محيطها ليس بديمقراطيتها أمام العالم بل بأنها دولة الاحتلال والقمع والأبرتهايد الأخيرة في العالم، وسوف تنبذ إقليمياً وتحاصر دولياً حتى تخضع وتعيد الحقوق لأصحابها وهي صاغرة.
قريباً جداً سوف نسمع أصواتاً إسرائيلية تستجدي من يجلس معها للتفاوض على قاعدة المبادرة العربية بعدما أدارت ظهرها واستهترت بالعرب ومبادراتهم لسبب بسيط..كيف تحترم مبادرات من ينسّقون معها أمنياً ضد شعوبهم، وهذا ينطبق على معظمهم.
إسرائيل اليوم ليست ما كانت عليه قبل ثورتي تونس ومصر لأن هاتين الثورتين مقدمة لثورة العرب الكبرى، وخلال أعوام قليلة سيعود كل الى حجمه الحقيقي في هذه المنطقة، العرب إلى حجمهم وقدراتهم التي تتناسب وتاريخهم وثرواتهم البشرية والطبيعية وإسرائيل إلى حجمها الذي تضخم جداً في العقود الثلاثة الأخيرة بعد تغييب أهم عناصر قوة الأمة العربية عن الساحة.
حرب أكتوبر عام 1973 كانت معركة عبور وتحرير الأرض ولم يُحسن استغلال نتائجها حتى النهاية، أما ما يحدث الآن فهو ثورة عبور الإنسان العربي إلى حرّيته ومصالحته مع ذاته، وخلال عقود قليلة ستعود هذه الأمة لتكون قوة عظمى تحترمها وتهابها شعوب الأرض قاطبة..