دانييل جانكا: الصحافة، المواطن والنـقـــود
محمد بنعزيز,
يتساءل دانييل جانكا وهو نائب رئيس منظمة مراسلون بلا حدود، صحفي سابق في لوموند ومدير سابق لمركز تكوين واستكمال تكوين الصحفيين، يتساءل في كتابه:
توزيع الصحف في تراجع، الشبان لا يقرؤون، الأنترنت توفر كل ما يطلب، فهل انتهى عهد الصحافة في عهد الشاشة؟ يجيب: لا، التلفزة لم تقتل الصحافة، فالمذياع يعلن، والتلفزة تظهر والصحف تحلل تفسر وتعلق، ثم إن الشركات الصناعية الكبرى تتسابق لشراء الصحف أو إصدارها. النقود تقتحم عالم الصحافة، سلطة المال تحل محل سلطة الدولة، فهل الصحافة سلعة تترك للسوق حسب الأنجلو ساكسون أم تستحق الحماية بفضل دورها الثقافي والتربوي حسب الفرنسيين؟
الإتجاه الأول هو الغالب، لأنه لا يُتوقع من حكومات لبرالية أن تدافع عن الإعلام كخدمة عمومية، فما هي مخاطر خوصصة الإعلام على الحق في المعرفة الصحيحة؟ وما هو دور المواطن ليدافع عن حقه في جريدة مستقلة وإعلام ذي مصداقية؟
المصدر (Daniel Junqua La presse, le citoyen et l'argent Gallimard 1999. )
يعالج الكاتب هذا الإشكال من زوايا متعدد في سبعة فصول هي:
الفصل الأول: متطلبات المواطن
كان المواطن الإغريقي يتلقى المعلومات في المنتدى، هذا المكان العمومي حيث يتعلم ويُسائل ويجيب ويناقش، في المجتمعات الحديثة، هذا المنتدى هو الصحافة. لذا يجب على الصحفيين وما لكي الصحف أن يقدموا الحقيقة للمواطن، لأن من شروط المواطنة، التوفر على إعلام حر، متكامل، صارم يقدم تقارير دائمة عن المسئولين، إعلام يمكن من الفهم، من الفعل ومن رد الفعل. نظريا، لاشيء يعترض هذه المهمة في فرنسا، فالمعلومات مشاعة والدولة لا تتدخل.
ما يعترض هذه المهمة هو أزمة الثقة، خاصة في المنابر الصحفية الجديدة، وقد أجرت جريدة Le Nouvel Observateur استطلاعين للمقارنة بين صورة الصحفي في 1975 و1990، في الأول كان الصحفي شجاعا، كفء، صادقا ومحترما، أما في الثاني فقض ضُم إلى الذين لا يمكن الوثوق بهم، وهم البرلمانيون والعاهرات. يفسر الكاتب: لم يتغير الصحفيون بل تغيرت المنظومة الإعلامية، وهناك أربعة عوامل وراء هذا التغيير:
1- ازدياد مكانة التلفزة
لأنها تعطي الأولوية للصورة والفرجة والإغراء على حساب الأفعال والأفكار والإقناع. وقد جعلت مقدمي البرامج في الواجهة وهو يحاورن المسؤولين، لذا يخلط المتفرج السلبي بين الصحفي والمسؤول الحكومي، فأصبحت الصحافة جزء من عالم السلطة.
2- دور الإعلام:
لم تعد السلطة تقوم على السر، بل على الإعلام/الإعلان، لذا تسلح المسؤولون بوسائل إعلامية خاصة لمراقبة وتوجيه المعلومات التي تعطى للجمهور، وذلك بإعداد ملفات، بتعيين ناطقين رسميين، بوضع مواقع خاصة على الأنترنت، بالإهتمام بالصحفيين، وتوفير دعوات وأسفار لهم... وقد حصل تداخل بين الصحفي والناطق الرسمي والملحق الصحفي ومدير الإتصال...
3- هوس زيادة المتابعة Audience
لم يعد الجمهور يميز بين الصحفيين ووسائل الإعلام والمؤسسات المالكة التي تبحث عن الربح. لقد غدا الإعلام سلعة، والجريدة منتوجا، والمطلوب مضاعفة عدد الزبناء، أي القراء والمتفرجين، وكلما زاد عدد الزبناء اتخذ ذلك دليلا على نجاح الخط التحريري. لزيادة الزبناء لابد من السبق الصحفي حتى لو أدى ذلك إلى أخطاء مهنية. للتنظير للوضع الجديد نظمت الجمعية الدولية للصحافة ندوة حول " Redaction et Marketing".
4- نهاية صراعات الرأي
من وظائف الصحف أن تكون مجالات للمواجهة بين الأفكار والآراء والقناعات، مما يمكن القارئ من التماهي مع جريدته والإعلان عن انتمائه إلى توجه فكري معين.
لكن جرائد الرأي لم تعد تحقق أرباحا بسبب موت الأيديولوجيا وانتصار اللبرالية التي تحث على الواقعية والبراغماتية، ولا ينظر إلى اللبرالية كأيديولوجيا، بل كقيم طبيعية.
كبديل لصحافة الرأي، يتم الحديث عن التجانس الاجتماعي والفكر الواحد والتسليم بتوجه معين، لكن أحداثا سياسية ذات حمولة سياسية كبيرة، مثل بعض الاستفتاءات، تبين أن هناك تناقضا بين التوجه العام للصحف ورأي المواطن. وهو ما يشكك في مصداقية الإعلام واستقلال الصحفيين.
لذا لا يجب أن تسابق الصحف التلفزة والمذياع، لأن مهمة الصحف بعدية، دورها هي أن تتوجه للذين سمعوا الخبر وشاهدوا الصور ويريدون أن يفهموا، وهذا ما يمنح الجريدة ميزات كثيرة. تقدم كمية كبيرة من المعلومات، حتى أن نشرة الأخبار الصباحية في الإذاعة الفرنسية لا تتجاوز نصف صفحة من لوفيغارو. ثم إن الصحيفة موثقة، مادية وتخاطلب العقل. تتأمل الحدث عن مسافة، تنظم الأفكار، تراجعها تقيم الوضع وتحرص على الموضوعية والنزاهة.
الخلاصة: إذا كان هناك من وسيلة إعلامية لتنوير المواطنين، فهي الصحافة. لذا يجب عليهم أن يتصرفوا، أن يبذلوا جهدا ووقتا ومالا، وذلك على الشكل التالي:
1- أن يؤثروا على اختيار الخط التحريري للصحف الكبرى.
2- أن يعاقبوا الصحف التي يرفضونها، وذلك بالتوقف عن شرائها لتفلس الجرائد التي لا تستجيب لتطلعات القراء.
3- إن ينشئوا جمعيات لمستهلكي الصحف للإحتجاج بشكل جماعي ضد تراجع جودة المنتوج الإعلامي.
4- أن يدعموا ماليا، الصحف المستقلة المهددة بالتوقف.
5- أن يساهموا نضاليا في التوزيع.
6- أن يؤسسوا جمعيات للقراء للمساهمة في رأسمال الصحف لتحافظ على استقلاليتها، رغم أن هذه الجمعيات لا تتدخل في الخط التحريري كما هو حال لوموند ديبلوماتيك.
7- أن يؤسسوا صحفهم الخاصة.
بهذا الشكل، لن يكون الفرنسيون سلبيين بل سيتحكمون في مصير إعلامهم.
الفصل الثاني: اليوميات من العصر الذهبي إلى مرحلة الركود
رغم دورهم في تاريخ الصحافة والنضال من أجل حرية التعبير، فإن الفرنسيين لا يقدرون اليوميات مقارنة بالأنجلو ساكسون. لذا تحتل فرنسا المرتبة 26 بمعدل توزيع يبلغ 190 نسخة لكل ألف مواطن فوق سن 15 سنة، في حين يبلغ المعدل 750 نسخة في النرويج.
كانت اليوميات الفرنسية في الصفوف الأولى بداية القرن العشرين، بفضل الحرية السياسية والتقدم التقني وانتشار التعليم المجاني والإجباري، في 1914، كانت تطبع في باريس ستة ملايين نسخة، نصفها مقسم بين ثلاث جرائد فقط، إضافة إلى 200 جريدة جهوية، بعد الحرب العالمية الثانية، جريدة واحدة فقط كانت تطبع أكثر من مليون، وقد استمر هذا التدهور، ففي 1998، كان عدد النسخ المطبوعة في باريس أقل ثلاث مرات عن الرقم عام 1939، رغم أن سكان فرنسا زادوا بمعدل النصف. أما الصحف الجهوية فقد حافظت على حيويتها بين التاريخين. في النصف الثاني من القرن العشرين، انقرضت عناوين كثيرة منها Combat التي اشتهر فيها ألبير كامو. صحيح أنه تم أنشاء صحف جديدة، لكنها لم تستمر لأنها لم تقنع ولم تجذب القراء، رغم أن بعضها حصل على تمويل كبير لمحاربة جريدة Le Monde.
لاوجود لجرائد توزع ثلاث ملايين نسخة يوميا في فرنسا، كما هو الحال في ألمانيا وبريطانيا. هذا ما سجله الكاتب بأسف وأكد أنه في عام 2000، لم تبلغ الصحف الباريسية الرئيسية الثلاث مليون نسخة مجتمعة. وتلك الصحف هي
Le Monde, Le Figaro, Libération. ووحدها Le Monde حققت تطورا بين 1994 و2000، وذلك بفضل مديرها J-M Colombani الذي أحدث تغييرا في اقتصاد الجريدة وتصنيعها وتحريرها، وظهرت في 1995 بهيكل ومحتوى جديد ص61.
لم تقتصر الصعوبات على اليوميات الكبرى للأخبار العامة، بل شملت صحافة الرأي أيضا، وقد وقف الكاتب عند جريدة شيوعية وأخرى مسيحية، لقد فقدت L'Humanité ثلث قرائها واضطرت لتبتعد عن الحزب الشيوعي الفرنسي وتغير الماكيت وتبذل جهودا لتصبح مقروءة، واضحة وجذابة، بل اضطرت لفتح رأسمالها رغم أنها ضد اللبرالية، وهذا تطور دال. أما جريدة La Croix فقد نجحت بشكل أفضل في إعادة الهيكلة وخاصة بعد أن زاد تمسكها بالبعد المسيحي.
وقد خلص الكاتب إلى أن الجريدة التي تحقق عائدات هي التي تطبق الوصفة التالية: أولا، تركز على الأخبار الإقتصادية والبورصة والأخبار الوطنية والمحلية والرياضة، ثانيا تكون مبوبة جيدا لتمكن القارئ من الوصول بسهول إلى المعلومات الأساسية التي يبحث عنها. ثالثا تعمل على استغلال أهمية التلفزة في حياة القراء. تعقد شراكات مع قنوات تلفزية لتعد ملاحق تنشرها أو تنشر برامج الإذاعات والقنوات التلفزية. رابعا تنجح في أن تصبح ضرورية بفضل دقة الخط التحريري ص 66. خامسا تقدم أسبابا للشباب ليشتروها، وخاصة على صعيد الأسعار، أي تخفيضها بدل رفع الأسعار كلما تراجعت عائدات الإشهار. فمثلا ارتفع سعر Le Monde بين 1990 و1992 بنسبة 56%. النتيجة هي أن سعر اليوميات الفرنسية ضعف نظيراتها البريطانية والأمريكية.
كل مساحة تخسرها اليوميات الفرنسية الكبرى، تربحها اليوميات الجهوية، والدليل أن ثمانية من عشر يوميات فرنسية كبرى تطبع في الأقاليم. وقد بدأ هذا التحول منذ الحرب العالمية الثانية بعد احتلال البلاد وتقسيمها وتخريب شبكة التوزيع وفصل باريس عن الأقاليم... حاليا يبلغ رقم معاملات الصحف الجهوية 2.5 مليار أرو، وهو أكثر من ضعف معاملات اليوميات الوطنية. ويقوم نجاح الصحف الجهوية على استخدام ماكيت وشكل جديدين، استعمال الألوان ، صفحات خاصة، ملاحق، تحقيقات، ألعاب، مسابقات، خرائط للسواح، أعداد خاصة بالعطل ونهاية الأسبوع، استغلال منجم الأحداث المحلية، اعتماد إعلام القرب وتبني خطاب صحفي قريب من الإدارة وأصحاب المصالح الإقتصادية.
استعرض الكاتب خصائص الصحافة الجهوية والصعوبات التي تواجهها ورهاناتها للتطور والإستمرار، وخلص إلى أنها شديدة التأثر بنظيرتها الأمريكية ويتهددها الإحتكار.
الفصل الثالث: بلاد المجلات
يحتل الفرنسيون الرتبة الأولى عالميا في استهلاك المجلات، 31 مليون فرنسي يقرأون مجلة واحدة يوميا على الأقل... ص87 وهي في تطور مستمر، فمن بين 42 عنوان أساسي ظهر 20 بعد 1980. ويعزو الكاتب هذا النجاح إلى قدرة المجلات على التقاط نغمة المرحلة والتكيف مع التغيرات الإجتماعية وتحولات الأمزجة وتطور المعرفة.
ويقدم بيير جانكا عناصر الوصفة التي تعتمدها المجلات الناجحة، وهي تقليد لأسلوب Jean Prouvet تقوم الوصفة على:
1- الصحافة مهنة وليست مجرد نوايا حسنة، لذا لا تنجح المجلات الأدبية/ السياسية التي تعتمد الحس النضالي وتفتقد حسن التسيير.
2- الإستجابة لأذواق وانتظارات القراء.
3- التركيز على الصور الصادمة، كان Prouvet صاحب مجلة باري ماتش يقول "Savoir, c'est bien, voir, c'est mieux.".
4- المرأة هي الهدف المفضل للناشرين، لذا يتم التركيز المواضيع النسائية: قصص الحب والأحلام وسلع اللوكس والتسلية والطبخ...
5- مخاطبة جمهور متعلم وميسور والتركيز على سلع الرفاهية، الحث على التسوق، الإحتفاء بالسلوك المتحرر.
6- تناول الأخبار الدولية بجرعة ضعيفة من التسيس.
7- استخدام عناوين مثيرة على أغلفة تضم مواضيع جد مختلفة لاقتناص كل الأذواق.
8- تقليد المجلات الأمريكية و اقتحام حياة المشاهير ونشر وثائق معينة تزيد التوزيع.
9- استغلال دور التلفزة في المجتمع.
10- استقطاب كتاب موهوبين وتناول المواضيع بحرفية وحس عملي في مقالات قصيرة.
حسب الكاتب، نجحت هذه المجلات لسببين الاول هو أنها تستجيب لحاجيات أجيال جديدة من النساء المتعلمات العاملات اللواتي يبحثن عن معلومات حول حياتهن العاطفية والمهنية. الثاني هو كون المجلات تصدر أسبوعيا فتستجيب لوتيرة قراءة منخفضة.
هذا النجاح دليل على أن التلفزة لم تقض على الصحافة، إذن فالوسيلة الإعلامية الجديدة لا تقضي على سابقتها، بل تضطرها للتكيف وتدفعها للمنافسة.
الفصل الرابع: التعدد الإعلامي في وضع سيء
الصحافة صناعة وتجارة، لذا تحتاج إلى وسائل تقنية وموارد بشرية ضخمة. تؤدي وظيفة أساسية في النظام الديموقراطي، لذا لابد من شفافيتها. يجب أن توفر الأخبار للمواطن في منابر مختلفة، لذا فإن التعدد Le pluralisme ضروري، لكنه مكلف. فقد عاشت اليوميات الفرنسية مرحلة عاصفة في النصف الثاني من القرن العشرين، بسبب ارتفاع كلفة الإستغلال، ضعف عائدات الإشهار، ارتفاع الأسعار وتراجع التوزيع... وقد تسبب هذا في انقراض الصحف غير المربحة، واندماج وتمركز عدة صحف في يد شركات تستثمر في الإعلام، وعندما تواجه المجموعات الصحفية صعوبات مالية، تعمد إلى فتح رأسمالها، وهكذا يتقوى الإحتكار بدل أن يقل، ويشتد أكثر عندما تحاول تلك المجموعات أن تكبر بشراء ما تبقى من الصحف المستقلة عنها أو الدخول في رأسمالها على الأقل في أفق السيطرة عليها. بحيث تسيطر عشر مجموعات على الصحافة الوطنية وتسيطر 12 شركة على اليوميات الجهوية... وغدا شخص واحد يتحكم في ثلث اليوميات الفرنسية، وهي حالة لانظير لها في أوربا ص143.
أيقظت المنافسة الأجنبية الشرسة السوق الإعلامي الفرنسي ودفعت الناشرين المحليين ليتقووا ويتهيكلوا ليصمدوا، من خلال تطبيق استراتيجية تحريرية وتجارية فعالة لتحقيق أعلى إنتاجية ممكنة. لكن منطق الربح يضعف الخط التحريري.
الفصل الخامس: النقود منقذ ومفسد
كانت الصحف الفرنسية تشغل 120 ألف شخص، من بينهم 33 ألف صحفي، تستهلك مليون ونصف طن ورق، حققت رقم معاملات وصل 10.3 مليار أور... وهذا عام 1999. الصحافة صناعة ثقيلة ومكلفة، واليوميات الفرنسية في أزمة دائمة لأنها فقيرة ص182. لذا تواجه صعوبات على ثلاث مستويات:
1- تقديم مضمون جديد كل يوم.
2- توفير الوسائل التقنية لصناعة عشرات آلاف النسخ كل ليلة، وفي وقت قصير.
3- توصيل الجريدة للموزعين والقراء في 32 ألف نقطة بيع.
لهذه الأسباب يلعب الإشهار دورا حاسما في نجاح أية جريدة، إذ تبيع الجريدة القراء للمنتجين الذين يريدون التعريف بسلعهم، وكلما زاد عدد القراء زادت عائدات الإشهار. وكلما ارتفعت هذه تم تخفيض سعر الجريدة لاستقطاب قراء جدد. لذا يجب نشر ما يشتريه القارئ. لقد كان صاحب أول جريدة تبيع مليون نسخة سنة 1880 يضع الدم على الصفحة الأولى. كان صاحبها ينشر في صفحة الوفيات إسم الطبيب الذي عالج كل ميت، ويضطر الطبيب لشراء كل النسخ حفاظا على سمعته. ص 197.
أخرجت هذه الصيرورة الصحافة من عالم السياسة والأدب وأدخلتها عالم المال والأعمال. من منطق المناقشات إلى منطق الربح. تحررت الصحافة من التبعية للسلطة، لكنها خضعت لمنطق المال، وقد عملت الأبناك منذ القرن التاسع عشر على السيطرة على الصحف للدعاية ونشر أرقام المعاملات وتقديم أظرفة لبعض الصحفيين أو شراء صمت صحف بكاملها.
لكن الوضع تغير الآن، لقد تراجع الإشهار لأسباب مختلفة: تنامي دور التلفزة، نشأت أساليب إشهار مباشر لا تعتمد على وسائل الإعلام. ظهر التسويق على الأنترنت، أصبح المعلنون هيآت تحرير، يعدون مجلات تباع أو توزع بالمجان في الأسواق الممتازة.... وهو ما أضعف الصحافة المهنية وأدى إلى خضوع الإعلام لمصالح الكبار، وقد أعلن أحد رجال الأعمال بوضوح أن امتلاك الصحف ضروري للحصول على الصفقات، وللرد على الذين ينتقدون مجموعته الصناعية. وهكذا أصبحت الصحف سلعة تتبادل، منذ 1990 تكثف وقوع وسائل الإعلام في يد شركات السلاح وتوزيع الماء والبناء والإتصالات. وأمكن لهذه الشركات أن تضغط للحصول على تنازلات، أي ألا تنشر الصحف أخبارها السيئة، وإلا سحبت عروض الإشهار، غدا الإشهار وسيلة لابتزاز الخط التحريري أو مكافأته على خدماته. وقد ألغى مدير شركة بوجو للسيارات عقدته مع جريدة Le Monde لأنها لم تمتثل.
ولشرعنة هذه التبعية، صدر قانون يمنع أن تمس أية جريدة مصالح الشركة المالكة ص223. وإلا توصل رئيس التحرير بتنبيه، وصارت الصحف تسمع صوت أربابها. من يدفع يتحكم وهذا يقلل من مصداقية الصحف. وقد أعلن مدير إحدى الجرائد "نحن مهددون من طرف المجموعات المالية الفرنسية والأجنبية"
وصلت فرنسا إلى هذا الوضع رغم أن قانون 1945، قد أكد أن الصحافة ليست وسيلة للربح التجاري، وأنها لاتقوم بوظيفتها إلا إذا تمتعت بحرية تامة. لذا يجب أن تكون مستقلة عن سلطة الدولة ونفوذ المال، وأن تخضع فقط لضمير الصحفيين والقراء. ص228.
الفصل السادس: الدولة وصي معني
ناضل المثقفون للحصول على حرية التعبير منذ أول جريدة فرنسية سنة 1631 إلى حين تبني الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789، وينص الإعلان على حرية التعبير ويحمل الدولة مسؤولية حمايته وتنظيمه. لذا يجب أن تعمل الدولة لتقوم الصحف بمهمتها، وهذا واجب دستوري، فدعم الصحف هو دعم للقراء ليختاروا... مما يلزم الدولة بحماية التعدد الإعلامي وتوفير الصحف بسعر معقول.
تطبيقا لهذا التصور، تقدم فرنسا دعما متنوعا ومكلفا للصحف، وذلك على شكل:
1- تخفيض كلفة البريد
2- تخفيض الضرائب، تدفع الصحف 2.5 من الضريبة على القيمة المضافة.
3- دعم مالي مباشر يبلغ 1.18 مليار أورو، ويوزع حسب شروط لجنة مختصة.
لكن هذا الدعم لم يبين عن فعاليته، لعدة أسباب، أولا يفيد الأغنياء أكثر من الفقراء، ثانيا لم يمنع توقف الصحف واستمرار الإحتكار، ثالثا يفيد حتى مجلات الديكور والموضة ولا صلة لهذه بالديموقراطية، رابعا اعفى الدعم هيآت التحرير من الحزم ومواجهة الواقع الإقتصادي.
لكن لا يقتصر تدخل الدولة الفرنسية في حقل الإعلام على الدعم المالي، فهي تتدخل في تسييره وملكيته، ويورد الكاتب واقعتين للتدليل على موقفه:
الأولى هي عرقلة شراء جريدة Le Monde لمجلة L'Expresse لأن البيع عملية سياسية، وقد استفاد منه صانع أسلحة ص262. الواقعة الثانية، وهي علاقة الدولة الفرنسية بوكالة الأنباء )أ ف ب(، وهي غير مستقلة لذا تراجع دورها إلى المرتبة الثالثة بعد أسوشيد بريس الأمريكية ورويترز البريطانية.
وخلص دانييل جانكا إلى أن غموض تلك العلاقة يؤثر على المشهد الإعلامي، وخاصة اليوميات التي تعتمد على )أ ف ب(. ]في المغرب قال بنونة صاحب وكالة المغرب العربي للأنباء سابقا أن الوكالة أخذت منه بداية السبعينات بثمن سيارة وفقدت استقلاليتها فألغت الكثير من الدول والصحف تعاقدها مع الوكالة المغربية([.
الفصل السابع: العلاقة الملتبسة بين الصحافيين والصحف
من هو الصحفي؟ شخص يبحث ويجمع المعلومات، يفحصها، ينسقها، يحللها وربما يعلق عليها. مهمته هي أن يجد معلومات سريعة، كاملة ودقيقة يقدمها للمواطنين. لذا لابد من صحفي مؤهل ومستقل يستجيب للإرتفاع المستمر للمستوى الثقافي للقراء، يجب أن يكون الصحفي تقنيا أو كاتبا جيدا قادرا على التوضيح والإيجاز، وهذه الصفات النادرة غير كافية، لذا يحتاج معارف واسعة ويجب أن يكون نزيها وشخصة متميزة un homme de caractère ليس فقط لأنه سيدافع عن الحقيقة، بل ليقاوم الكسل والجهل الذي يلذ للجمهور. ص280
الصحف:
كانت الصحافة مرتبطة بالسياسة والأدب، تناقش الأفكار وتمس دائرة ضيقة من القراء. لكن بفضل حرية التعبير والتقدم التقني والتعليم مست الصحف اليومية جمهورا كبيرا، وقد تحقق ذلك عن طريق: التركيز على الأحداث المؤثرة والمتنوعة أكثر من التحليل السياسي، مع اعتماد السرعة، الإيجاز، الدقة والحياد. في شكل أخبار وحوارات وحوادث... ويشترط أن تصاغ هذه المادة بالإجابة عن الأسئلة:
من؟ ماذا؟ أين؟ متى؟ لماذا؟ وكيف؟ ويجب أن تكون كل الأجوبة في الفقرة الأولى. التوضيحات، التفاصيل، الظروف، التذكير بالسوابق يأتي لاحقا. ويجب أن تكون الفقرات مرتبة من الأهم إلى الأقل أهمية، كالهرم المقلوب، ليستطيع سكريتير التحرير بتر الخبر تبعا للمساحة المتوفرة. ص282.
هذا ما يطلبه السوق، لكن المؤلف يقر، أن رغم خضوع الصحافة الفرنسية لقانون السوق، فإنها تحتفظ بحس أدبي ومجال للغة والموهبة الادبية، تمزج بين الخبر والرأي، وإن كان مالك الجريدة يطالب بالأخبار أكثر.
المشكل هل يخضع الصحفي لقناعته أم لرب العمل؟ فالصحفي ليس موظفا كالآخرين، لذا صاغت النقابة الوطنية للصحافة ميثاق الواجبات المهنية للصحفي الفرنسي. ص289
ومن مهام هذه النقابة أن تنظم المهنة وتعطيها وضعا اعتباريا وتحاور أرباب الصحف لتوفر للصحفي باعتباره مأجورا من نوع خاص، الحماية اللازمة، على أمل أن تمكنه من التـاثير في الخط التحريري في حال انتقال الجريدة بالبيع أو الوراثة، و إذا حصل تناقض بين قناعات الصحفي والخط التحريري للجريدة يمكنه الإستقالة والحصول على تعويض، هذا أقصى ما يستطيعه. الحل المقترح هو مساهمة الصحفيين في رأسمال الجريدة، لكن هذه المساهمة تبقى ضعيفة ولا أثر لها في اتخاذ قرارات المجلس الإداري.
غير أن أرباب الصحف لا يحبون هذا الحل، بل أولا يريدون تخفيض تكلفة العامل البشري في الإنتاح، ثانيا يبحثون عن صحفيين مؤهلين، تقنيين، سريعين، غير مكلفين ومطيعين، ثالثا يعتمدون أكثر على المتعاونين Les pigistes، كانوا 7% عام 1975، صاروا 18.8 عام 2000 ص308. رابعا يمنحون الصحفيين المكلفين والمزعجين تقاعدا مبكرا...
يختم جانكا قائلا أن مهنة الصحافة لم تعد مثل الكبريت، رغم أنها تثير الاحتجاجات، وتمنى لها أن تحافظ على احترامها تجاه السلطات وهيبتها تجاه الأيديولوجية المهيمنة.