يهود سوريا.. الشروق تكشف أسرار أقدم جالية يهودية حماها الإسلام
lotfi Flissi
كنيس عمره 2700 عام .. معبد يعد الأول لليهود على سطح الأرض ، حارة تحمل اسمهم ، يتجولون فيها وفي شتى أنحاء سوريا بحرية تامة ، فهم لا يخفون حقيقة معتقدهم بالرغم من كون المجتمع السوري من أكثر المجتمعات العربية والإسلامية كراهية - ليس للصهيونية فحسب - ، بل لليهود عامة، لكن مجتمع اليهود السوريين يحمل الكثير من الأسرار ، "الشروق" نجحت في اختراق هذا العالم الغريب ، فكشفنا أشياء مثيرة ننفرد بها في هذا التحقيق
هجرة غير مبررة
لا شك أن العامل السياسي من أهم عوامل ترك اليهود لسورية، إلا أن ذلك لا ينفي أن يهود سوريا في معظم العقود كانوا متمتعين بأكثر من حقوقهم ، لكن الحديث عن العامل السياسي ضرورة فرضتها ظروف الصراع العربي الصهيوني خاصة على الجبهة السورية .
وفي كتاب "اليهود السوريون" يؤكد كاتبه سمير عبده قائلا : " أنهم أقاموا في دمشق ويشكلون ثالث طائفة في سورية بعد المسلمين والمسيحيين، واستوطنوا دمشق وحلب والقامشلي، وقدر عددهم في سورية عامةًَ 26 ألفاً و 250، عام 1932، وارتفع هذا العدد بعد أقل من عشر سنوات 1943 حتى 29 ألفا و 770 يهودياً، ثم ارتفع عام 1956، أي أيام الحياة النيابية في سورية وبرلمان 1954-1958، حتى بلغ 32 ألفاً.
ثم وصل إلى 35 ألفا في نهاية خمسينيات القرن الماضي بينما لا يتجاوز عددهم اليوم المائة والخمسين شخصا ، وشهد القرن التاسع عشر نهضة عمرانية لبيوت اليهود في دمشق، من أشهرها قصر يوسف أفندي عنبر في حي مئذنة الشحم، وكان هو الثاني من حيث المساحة والأناقة بعد قصر العظم، وظل يعرف حتى الآن بمكتب عنبر ".
كلام الكاتب يوضح تعداد اليهود بسوريا عبر الحقب التاريخية الحديثة ، لكنه أيضا يضرب مثالاً معبراً عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الذي كان يهود سوريا يعيشونه.
مصالحة مع النظام الحاكم
يؤكد ديفيد بنحاس "أبو ألبير" - رئيس "الطائفة الموسوية" في سورية ومتعهد مبان وأحد أثرياء اليهود في سورية – قائلا : " ليست الأموال التي يملكها في سورية هي التي تفرض عليه البقاء فيها، فهناك الكثير من أبناء طائفتي غادروا وتركوا وراءهم الكثير من الأموال والأملاك، إنما هو حبي الشديد لوطني "، ويضيف: "أعيش أنا وزوجتي سميحة إبراهيم وابني موسى ولا أحد غيرنا في القامشلي، أعمل في مجال الإنشاءات ولدي الآن مشروع محلات تجارية بقيمة 200 مليون ليرة سورية ، وفي السنة الماضية رممت سوق الصاغة في القامشلي حتى أصبح تحفة فنية ".
ويواصل أبو ألبير قائلا: "في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد أخذنا كامل حريتنا وأصبحنا مواطنين على قدم المساواة مع كل السوريين وتوسعت علاقاتنا مع البدو والمسيحيين إضافة إلى المسلمين وعشنا حياة اجتماعية طبيعية نشارك فيها كل الطوائف أفراحهم وأحزانهم ومناسباتهم، أما في عهد الرئيس بشار الأسد تبدو الأمور على أحسن ما يرام حتى أننا زرنا الرئيس وأكد لنا استعداده لمساعدتنا في كل ما يهم حياتنا وشؤوننا الدينية وقابلنا كذلك مسؤوليين سوريين آخرين.
احتلال يهودي سياسي واقتصادي
سكن اليهود أساساً في دمشق إضافة إلى بعض المحافظات الأخرى مثل حلب والحسكة، وللمفارقة فقد احتوى سور دمشق التاريخي "حي اليهود الدمشقي" في حين أن كثيراً من بيوت المسيحيين وقعت خارج هذا السور، وفي حلب يتواجد اليهود في حي الجميلية ولازال هناك في الجميلية معبد يهودي عمره أكثر من ألفي سنة .
ويقول كتاب "اليهود السوريون": " لقد بات تجار دمشق اليهود في منتصف القرن التاسع عشر، من أغنى تجار مدينة دمشق على الإطلاق، وكان بينهم تسعة تجار يتعاملون مع انجلترا بشكل أساسي ، وهكذا احتل أثرياء اليهود مكانتين اقتصادية وسياسية بارزتين في أوساط الدوائر الحاكمة في سوريا، وأصبح صيارفة اليهود يتحكمون في مالية دمشق ويتصرفون بها كما يشاؤون، حتى أن أحدهم وهو سليمان فايصي، بات يسمى مجازاً: وزير المالية، وكان يقرض الحكومة ، وكان لليهود مصرف في حلب: (بنك صفرا)، وآخر في دمشق (بنك زلخة)، وكانوا يتشددون في تعاملهم المالي مع الأهالي، حتى أن أهالي دمشق رفعوا شكوى ضدهم إلى السلطان العثماني محمود الثاني ليبعد جورهم عليهم، أما بعيداً عن الصيارفة والتجار الكبار اليهود، فإن معظم يهود حلب عملوا في التجارة، في حين عمل يهود دمشق في المهن اليدوية، خاصة صناعة الأدوات النحاسية .
اليهود يؤكدون أن الإسلام حماهم
أما على المستوى الاجتماعي فقد عاش اليهود في سورية بشكل طبيعي في إطار الدين الإسلامي السمح الذي كان أساساً الإطار الذي حماهم في كثير من المحن وعقود الاضطهاد التي عاشوها في أوروبا، ومن خلال شهادات بعض اليهود السوريين تتأكد تلك الحقيقة .
بدورة شطاح: مهندسة زراعية، ولدت في دمشق تعمل حالياً في مديرية التأهيل في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، وتصف عملها بأنه جيد جداً، كما تعمل مع أخيها في الصاغة.
أما إيلي شطاح: مهندس في محافظة دمشق فقال: أعمل في المحافظة منذ خمسة وعشرين عاماً واستطعت أن أدمج الهندسة مع المجوهرات. أما سليم دبدوب: عمل في تجارة السجاد والشرقيات فقال:أعيش هنا منذ نصف قرن تقريباً وكل من ذهب إلى أمريكا بلد الدولارات ندم لأن عملنا في دمشق جيد وعلاقاتنا جيدة جداً.
أما وداد سليم فارحي فهي عجوز يهودية ولدت في دمشق وتبلغ من العمر 90 سنة تقطن في حي الأمين بدمشق تقول: ولدت في دمشق وأعيش هنا ولا يوجد أحد من عائلتنا كلهم هاجروا من سورية إما للزواج أو للعمل ، نتعامل مع كل الطوائف ولا نفرق أبداً - يوجد مدفن خاص لنا في دمشق في باب شرقي - والحياة هنا جيدة جداً. أما أليز سليم فارحي وهي أيضاً عجوز يهودية تعيش مع أختها في نفس المنزل عمرها 92 سنة - أول سيدة تقود سيارة في دمشق – تقول : عمل أهلي في التجارة والصياغة وكنا نعيش معاً بألف خير.
أما ايلي الذي يعمل صائغاً في دمشق في حي الصالحية فيقول: بعض اليهود الذين هاجروا من سورية بهدف تزويج بناتهم يطمحون للعودة إلى دمشق وهم متمسكون بسورية ونمارس طقوسنا في الأعياد يوم السبت بالكنيس في حارة اليهود ولنا مقام في جوبر اسمه مقام الخضر موجود منذ القدم ويعمل أبناء هذه الطائفة لترميمه بأموالهم الخاصة ويلقون الدعم المعنوي من السلطات المعنية.
الطريق إلى حارة اليهود
على اليمين من باب توما في قلب العاصمة السورية دمشق تبدأ حارة اليهود الدمشقية وتعد من أقدم حارات اليهود في العالم ، لكن المفاجأة أن اليهود القاطنين فيها هم بضع عشرات فحسب، رغم المعلومات التاريخية عن الثراء الذي كانوا يعيشون فيه والقرى التي كانت تخصهم.
ويشير باحثون سوريون إلى اليهود على أنهم أقدم طائفة دينية في سوريا، كما أن أقدم كنيس لليهود في العالم يوجد في دمشق فيما خرجت أول كتابة للتوراة من مدنية حلب الواقعة شمال غرب سوريا.
وتوجد قرية اسمها (القريتين) شرق مدينة حمص ب 90 كم هي أصلا يهودية اسمها بالتوارة (حصر عينان) كما جاء في سفر التكوين وفي الموسوعة اليهودية حيث وضعوا مما يعني أن هذه البلدة كانت يهودية .
ويشير نبيل فياض، الذي كتب أبحاثه عن اليهود في سوريا بعد معايشة واقعهم، إلى دلائل أخرى على قدم اليهود في سوريا. ويقول: "منطقة (تادف) التي تقع قرب مدينة حلب خرجت منها أول نسخة من التوراة من قبل (عزرا عاسوفير) حيث تم أول تحرير للتوارة في التاريخ وكانت هناك محاولة لبناء كنيس في المكان الذي كتبت فيه التوارة لليهود السوريين وحضر سفراء أجانب لمشاهدة العمليات الأولية لبناء هذا الكنيس وبسفر أبو موسى جاجاتي ممثل اليهود توقف هذا الأمر".
أول كنيس يهودي في العالم
ظهرت في حلب أول كتابة للتوراة ، ولا يزال أول كنيس يهودي في العالم واضح المعالم في دمشق ، وفي بلدة جوبر الواقعة شمال شرق دمشق والتي تسمى بالعبرية "غوبار" يوجد أقدم كنيس في العالم وهو كنيس إلياهو النبي الذي تم بناؤه في زمن النبي إيليا كما يرد في (سفر الملوك في التوارة) وإلياهو النبي وقع في مشكلة مع إيزابيل حاكمة فلسطين وهرب من إيزابيل الوثنية إلى دمشق وعمل أول كنيس وهو أقدم كنيس لم يتم تدميره حيث أن بقية الكنس اليهودية في العالم تم تحويرها أو تدميرها إلا أن هذا البناء لا يزال قائما وهو أقدم معبد ديني في دمشق".
طقوس وعادات اليهود السوريين
يقول أحد اليهود السوريين : "ابنتي لا أزوجها إلا من ابن عرب أي يهودي من بلد عربي" ، ويرجع ذلك إلى أن اليهود السوريين يختلفون في عاداتهم وتقاليدهم عن اليهود في الولايات المتحدة فهم لا يزوجون بناتهم ليهود أمريكيين ومحافظون جدا مثل أي مواطن سوري.
ويملك اليهود السوريون المهاجرون إلى الولايات المتحدة بعض الكنس الحلبية والدمشقية في قلب نيويورك كما أسسوا هناك مطاعم شامية وحلبية وحافظوا على طابعهم السوري، وفي التسعينات أقدم الحاخام إبراهيم حمرا على تسفير اللحامين اليهود من سوريا، ولأن اليهود يرفضون أكل لحم لا يقدمه لحامون يهود ضاقت الدنيا بهم وأقدم بعضهم على استيراد اللحوم من تركيا وكان هذا سببا مهما في هجرة الكثير من اليهود .
وفي سوريا توجد 04 طوائف يهودية: الأرثوزكس والمحافظون والاصطلاحيون وجماعة إعادة البناء ، والأرثوزكس يلبسون لباسا دينيا، ولا يأكلون لحم الخنزير، وصلواتهم تتم فقط بالعبرية .
واختلاط اليهود السوريين بالمجتمع السوري كان قليلا ونادرا ونساؤهم مبعدات عن الدين ولا تدخلن في كنس أو تؤدين الصلوات والصوم ، وكانت أبرز أعيادهم "الشبعوت" و"المساخر" الذي يلبسون فيه ثيابا مضحكة وكذلك عيد "حنوكا" عيد نزول التوراة.
وكان يتزعم الطائفة اليهودية بعد هجرة الحاخام حمرا حاخام آخر اسمه أبو موسى جاجاتي والذي سافر خارج سوريا أيضا.
مناصب سياسية خطيرة
ينتشر اليهود السوريون في الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك وفنزويلا وقلة منهم هاجرت إلى دولة الكيان الصهيوني ، ويصل عددهم في أنحاء العالم إلى قرابة 100 ألف يهودي ، وكان الدستور السوري عام 1930 يمنح كل طائفة يزيد عدد أفرادها على 06 آلاف شخص، أن يكون لها ممثلا في المجلس النيابي (البرلمان) ومثل اليهود في تلك الفترة مرشحان: قائمة الأحرار، و قائمة الحزب الوطني، ويذكر فضل عفاش في كتابه (مجلس الشعب في سورية: 1928 ـ 1988)، اسم النائب اليهودي يوسف لينادو عن مدينة دمشق في برلمان 1932، ويذكر في المجلس النيابي المنتخب عام 1947، اسم النائب اليهودي عن دمشق وحيد مزراحي.
ولم يبرز بين اليهود السوريين اسم أديب أو شاعر أو صحافي بارز بعكس فترات تاريخية ماضية لعبوا فيه أدوارا بارزة في السياسة والأدب. ويشير باحثون إلى أنه في عهد الدولة الفاطمية تمت تسمية اليهودي مناشيه بن إبراهيم القزّاز حاكماً على سورية، وكان اليهود آنذاك يقيمون في دمشق وحلب وصور وطرابلس وجبيل وبعلبك وبانياس.
وبرز اسم أدباء منهم الشاعر اليهودي موسى بن صموئيل الدمشقي الذي رافق أحد الوزراء المملوكيين في رحلة الحجّ إلى مكة، وفي العام 1506 أنشئت أوّل مطبعة عبرية في دمشق، وتعاون يهود دير القمر وحاصبيا مع قوّات الأمير بشير الشهابي في قمع الثورة الشعبية ضدّ عبد الله باشا.
ــــــــــــ
دمشق : وليد عرفات