من لا يحبني لا يستحق ان يعيش لا ولاء الا للوطن
أحمد السنوسي
يسدي مكيافيلي، صاحب كتاب 'الأمير' المرجع الأساس للسلطوية، وإنجيل المستبدين، نصيحة ثمينة للحكام بألا يلعبوا لعبة النّرد مع بسطاء القوم، فاذا خالط الأمير 'رعاع' الشعب، ذهبت هيبة السلطان أدراج الرياح.
وكانت الهيبة والتهيّب أساس شرعية الحاكم في عصر مكيافيلي، قبل ان تقوم ثورات أوروبا بتصحيح المسار، عبر اعادة الشرعية الى الشعب كرافد أول وأخير ينهل منه الحاكم العادل أسباب وجوده، على اساس ان السلطة مجرد تفويض محدود في المكان والزمان.
ولم يكن المستبدون العرب في حاجة الى منظري الطغيان ليركبوا أحصنته، فهم لا يستأنسون بالكتاب، ليس ترّفعاً بل جهلاً مزمناً، وادقاعا في الأمية الأبجدية والمعرفية والسياسية، على الرغم من ان أغلبهم يتوفر على 'دكتوراه فخرية' يفتخر بها اينما حلّ وارتحل، تسلمها بعض الجامعات المرموقة تزلفاً وطمعاً في هبات كريمة من أصحاب المهابة، وملوك ورؤساء وأبناء جهلاء العرب المتربعين على عروش 'الخلود'.
حكّام أمة 'إقرأ' لم يستثمروا سوى في مخلفات الاستعمار الغربي، الذي لم يرحل الا بعد ان خلف وراءه أذنابه وحوارييه ونسله الذي يواصل حصد ما زرعه.
تعددت أسماء الاحتلال في الماضي، فقد كان استعمارا مباشرا في الجزائر، و'انتداباً' في بلاد الشام و'حماية' في المغرب. لكنه لم يرحل الا بعد ان لغَّم وزرع أرضنا بالضغائن القبلية والنعرات السلالية والمذهبية واللغوية، وترك ألغاما وهو مؤمن بقدرته على تفجيرها عن بُعد.
فوجد المستبدون العرب فيها مرتعاً خصبا لبسط نفوذهم خارج كل شرعية، بعد ان حملت أغلبهم دبابات الانقلابات العسكرية الى السلطة فدعوها باطلا 'ثورات'، علماً منهم انها تمت في غفلة من الشعوب، التي لم يحدث ابدا في تاريخ العرب ان استشارها حاكم او التمس رأيها في تقرير مصيرها.
وكيف لها ذلك بعد أن تعرضت لمسلسل جهنمي قوامه التجهيل وتعويم المنظومات التعليمية والتربوية في ما لا يفيد، واحتكار الخدمات العمومية وفرض الوصاية على التجارة والاقتصاد، وتحويل البلاد العربية الى 'مقاولة عائلية' تنفرد بتسويق المواد الاستهلاكية الأساسية ضداً لأبسط قواعد الاقتصاد الليبرالي، رغم سيئاته العديدة، فتتحول 'الدولة' المشّخصة في الحاكم الظالم الى المعلم والطبيب والتاجر والوسيط والسمسار، فيما لا يتم الاعتراف لـ'الرعيّة' (اذ لا توجد مواطنة لدى العرب حسب انظمة الاستبداد) الا بوضع المستهلك المهوس بالمعيش اليومي وتكاليفه التعجيزية، التي تبطل لدى البسطاء قريحة المطالبة بأي شيء آخر غير الرغيف المغموس بالمعاناة والاحتقار، او على الأقل هكذا تصور رموز التسلط العربي ذوو المخيلات المريضة، الذين أخضعوا الشعوب لمزاجهم الخاص وأهواء أنجالهم والعصابات الانتهازية التي تدور في فلكهم وتستنزف ثروات البلاء، كالجراد الذي لا يترك وراءه سوى الخراب.
وما دام الديكتاتور العربي قد تقمّص كل الادوار واستباح كل المحظورات، فإنه صنع من 'الهيبة' التي ينصح بها ميكافيلي الحكام قداسة وهمية تحيط شخصه المعلول والمريض، الى درجة ان 'قائد ثورة الفاتح' كشف عن آخر أوراقه الدموية حين هدد 'شعبه' منذراً ومحذراً بأن من لا يحبه لا يستحق ان يعيش، مبدعاً في ذلك نظرية رابعة جديدة، ترهن مصير الشعب بمدى ولائه للطاغية ذي القداسة المدنسة العفنة فيما حكمة الشعوب تقول ان 'حب الاوطان من الايمان' ولا ولاء الا للوطن وحده.
' فنان وكاتب مغربي