ثورة الياسمين تكسر القيود الصحافية في "الخضراء" المشهد الإعلامي في تونس من اضطهاد مطلق إلى حرية غير مقيدة

ثورة الياسمين تكسر القيود الصحافية في "الخضراء"
المشهد الإعلامي في تونس من اضطهاد مطلق إلى حرية غير مقيدة



تونس ـ نبيل زغدود
لامست الثورة، التي أطاحت بنظام حكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، المشهد الإعلامي التونسي الذي أنعتق للمرّة الأولى من آلة القمع والترهيب بعدما كان خاضعا لسيف الرقيب بشكل جعل من هذه الدولة على رأس قائمة البلدان القامعة لحرية التعبير. فقد عُرف عن نظام بن علي سجنه للصحافيين وتتبعهم قضائيًا. إلا أنّه منذ 14 كانون الثاني/يناير تغيّرت المعطيات واستنشق إعلاميو البلد ياسمين الحرية بعد سقوط مغتصبها.
أفلح نظام بن علي طيلة 23 عامًا في تضييق الخناق على أي صوت ناقد له، ولم يكن يتردد في الزجّ بمعارضيه وبالأقلام الجريئة في السجن. لذلك من الطبيعي أن يقطع سقوطه مع سنوات القمع التي يصفها العديدون بالجمر، حيث ظلّ يكذب على العالم بأنّ حريّة التعبير مضمونة دستوريا، وأنّه لا مجال لعرقلتها. ولطالما كذّب نظامه تقارير "مراسلون بلا حدود"، والعديد من المنظمات الدولية، التي تراقب حالة حرية التعبير في دول العالم. لكن قبل هروبه بساعات، اعترف الطاغية بوجود رقابة على الإعلام خلال الكلمة التي توجّه بها ليلة 13 يناير/كانون الثاني، والتي قال فيها "قرّرت الحريّة الكاملة للإعلام بكل وسائله وعدم غلق مواقع الانترنت ورفض أي شكل من أشكال الرّقابة عليها مع الحرص على احترام أخلاقياتنا ومبادئ المهنة الإعلاميّة". وهنا تكون آخر ورقات التوت قد سقطت عنه وعن المدافعين عن سياسته الإعلامية التي حاولت مرارًا وتكرارًا تشويه الأقلام الحرّة والوسائل الإعلامية المستقلّة.
فتحت تونس بعد الثورة أبوابها لعديد المؤسسات الإعلامية التي كانت لسنوات طويلة ممنوعة من تركيز مكتب لها في تونس أو حتى انتداب مراسلين لها نتيجة لسياسة صدّ مصادر المعلومة أمامهم. كما نجحت العديد من الصحف والمجلات من الولوج إلى الساحة التونسية، بعدما كانت تُحجز ويمنع توزيعها على غرار "القدس العربي" و"الأخبار اللبنانية" فضلا عن المجلات والصحف الغربية. كما أصبح من اللافت للانتباه أن تجد من يطالع هذه العناوين بكل أريحية، ومن دون أي توجّس، إلى جانب هذه المؤشرات فُتحت جميع المواقع التي كانت محجوبة والتي كان الولوج إليها يتطلّب استعمال "البروكسي"، كما غيّرت وسائل الإعلام المحليّة من خطّها التحريري ولم يعد هنالك خطوط حمراء فيما يتناوله الصحافيون.
شهدت وسائل الإعلام الرسمية تغييرًا واضحًا في الخطّ التحريري حيث تمّ القطع مع ما كان سائدا قبل الثورة.
وقام الصحافيون بطرد رؤسائهم في العمل الذين كانوا طرفًا في قمعهم ومنعهم من ممارسة عملهم في إطار من الحرية والأخلاقيات. كما قام التلفزيون الرسمي بتغيير اسمه ليصبح "التلفزة الوطنية". هذه المؤسسة التي شهدت أوّل إضراب عام في تاريخها، إذ غابت نشرات الأخبار طيلة 48 ساعة، وتبعه تحقيق مطالب عدّة مهنية، لعلّ أبرزها انتخاب هيئة تحريرية، وهو ما يعتبر سبقا يحسب لهذه المؤسسة التي طالما ساهمت في التعتيم الإعلامي الذي مارسه نظام بن علي طيلة سنوات حكمه، وطوّعها لتخدم أجندته السياسية المخادعة والمهادنة في آن واحد. كما أصبح الإعلام الوطني أكثر التصاقا بمشاغل المواطن أينما كان حيث بات من البديهي مشاهدة عدّة تقارير عن الأوضاع الاجتماعية. كما أصبح من المألوف حضور العديد من الوجوه التي كان من المحرّم حتّى مجرّد ذكر اسمها في هذه الفضاءات الإعلامية على غرار المحامي مختار الطريفي، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وناجي البغوري، نقيب الصحافيين التونسيين، فضلا عن عديد الوجوه المعارضة لبن علي وسياسته.
هذا التحوّل على مستوى الشكل والمضمون قال عنه ناجي البغوري نقيب الصحافيين التونسيين خلال لقاء نظّمته "مجموعة آفاق ديمقراطية" بالتعاون مع المعهد العربي لحقوق الإنسان إن المؤسسات الإعلامية التي كانت تمجد النظام البائد انقلبت بعد ثورة 14 جانفي وأصبحت هي نفسها تمجد الثورة وتؤسس لدعاية مختلفة، كما أبرز أن الوضع الاستثنائي ما بعد الثورة والذي منح مناخًا من حرية التعبير أفرز أيضا فلتانا إعلاميًا ساهم في بروز حالة من الإخلالات والتجاوزات، خاصّة أن الإعلام التونسي لم ما يزال يشكو العديد من العلل التي أصابته طيلة أكثر من عقدين، البغوري حذّر أيضا "أن معركة حرية الصحافة لم تحسم بعد نتيجة بروز قوى سياسية جديدة من مصلحتها توظيف الإعلام لخدمة مصالحها فضلا عن مخاطر التأثيرات المالية"، وحسب رئيس نقابة الصحافيين التونسيين، فإنّ الأسئلة الملحّة التي تبحث عن أجوبة لها لدى عموم الصحافيين تتعلّق أساسا حول الأولوية في توفير الضمانات القانونية التي تحمي أحدهم ووسيلة الإعلام وتنقية قانون الصحافة الحالي من الزجرية، أم في إلغاء القانون المنظم للصحافة واستبداله بميثاق شرف على غرار تجربة بعض الديمقراطيات الغربية؟
وأوصت "مراسلون بلا حدود"، في بيانها التقييمي بشأن وضع حرية صحافة في تونس بعد الثورة "بالعمل على خلق إطار قانوني ينظّم عمل وسائل الإعلام وتشكيل هيئات تنظيمية مستقلة تتمتع باكتفاء ذاتي فعلاً "مرئية ومسموعة ومطبوعة"، تقنين منح التراخيص التي تسمح بإنشاء وسائل إعلام جديدة، مع خلق فضاء قانوني جديد للصحافة".
من وجهة نظر قانونية يقول المحامي أهل الدين بن سلامة يقول "قانون الصحافة في تونس لا يزال ساري المفعول رغم إلغاء العمل بالدستور وينبغي على القطاع الإعلامي أن يكون منظما تفاديا للتجاوزات، قانون يحمي جميع الأطراف من الباثّ إلى المتقبّل. وأفاد سلامة بأنّ القوانين التي تنظم العمل الصحافي والنشر لا توجد فقط في مجلة الصحافة بل أيضا في قانون حماية المعطيات الشخصية، ومجلة الاتصالات، والمجلة الجزائية"، منبّها إلى أنّه "من غير المقبول أن تنتهك أعراض الناس باسم حرية الصحافة".
وكخطوة إيجابية بشأن نيّة الحكومة التونسية لإصلاح المشهد الإعلامي، تمّ الإعلان عم تأسيس الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال والتي يرأسها الإعلامي كمال العبيدي وتضمّ في تركيبتها فريق عمل يتولى القيام بمهمة محدودة في الزمن من ابرز أهدافها تقديم مقترحات وتوصيات بشان تطوير الأداء الإعلامي والنهوض بواقع القطاع وإحداث هيئات تعديلية لتسوية ما قد يطرأ من مشاكل بين المؤسسات الإعلامية والرأي العام من دون اللجوء إلى المحاكم، ومن ضمن أولويات هذه الهيئة هو تقييم واقع الإعلام والصحافة والاستئناس بتجارب مقارنة كتلك التي مكنت عديد البلدان من طي صفحة الماضي وإرساء إعلام حر مستقل على غرار إسبانيا واليونان ودول أوروبا الشرقية وتشيلي والأرجنتين.
هكذا يبدو المشهد الإعلامي التونسي أيام قليلة بعد الثورة، وكاستنتاج أخير فإنّ تونس ما بعد الثورة يمكن أن تصبح مركزًا إعلاميًا إقليمًيا ودوليًا، بخاصّة وأنّها تنتصب وسط خارطة جغرافية تعرف اغتصابًا مستمرًا لحرية التعبير.