السياسة الخارجية الأميركية تفتقد ريتشارد هولبروك
رحيل "الممثّل الخاص"
لا يمكن قياس الأثر الذي خلفه ريتشارد هولبروك على السياسة الخارجية الأميركية. من فيتنام إلى البوسنة، أصبح هولبروك عنصرا لا يمكن الاستغناء عنه في الإدارة الأميركية. ولكن، على الأرجح أن أكثر ما سيُذكر به هذا الدبلوماسي الفريد هو الدور الذي قام به في أفغانستان. لقد جعلت خبرته في العمل الدبلوماسي وتفهمه الفطري لمناطق الصراع من الصعب أن يحل محله أي شخص في الوقت الذي الولايات المتحدة هي أكثر حاجة إليه.
نحو نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول)، عقد الرئيس باراك أوباما اجتماعا للجنة مراجعة الحرب الأفغانية الذي طال انتظاره، بعد أيام قليلة من وفاة ريتشارد هولبروك، المبعوث الخاص إلى أفغانستان وباكستان. وفي تقييم لإمكانيات العمل الأميركي في أفغانستان، أوضح التقرير وجود «تحسنات» في موقف قوات الناتو. ولكن لم تقلل المكاسب الهشة التي حددها التقرير من التساؤلات التي تحيط بالاستراتيجية الأميركية في المستقبل. ومع رحيل هولبروك وتزايد الشكوك حول نجاح الحرب، يبدو أن محاولات وضع استراتيجية سليمة في منطقة أفغانستان وباكستان تزداد تعقيدا.
لم يكن هولبرك - الذي لا يمكن الاستهانة بالبصمة التي تركها على التاريخ الأميركي - مجرد مسؤول في السلك الدبلوماسي. لقد كان يجمع في عمله بين المفاوض وعالم الأنثروبولوجيا. كان يعلم التفاصيل الدقيقة عن صراعات محددة أفضل من أي شخص آخر. وكان مقنعا، سواء باللين أو الشدة. وبدا هولبروك متمتعا بقدرة طبيعية على تقدير تكاليف الفرص للخصوم الذين حاول استرضاءهم. وكان يعلم كيف يستفيد من مثل هذه المعرفة. وبدلا من الاعتماد على التقارير، اشتهر هولبروك بأنه يبحث عن آراء السكان المحليين، وهو الأسلوب البحثي الذي اعتمده في بداية حياته العملية.
عمل هولبروك محررا في مجلة «فورين بوليسي»، وأستاذا أكاديميا، ومسؤولا في فيلق السلام، ومصرفيا في مؤسسة استثمارية، وهو الشخص الوحيد الذي عين مساعدا لوزير الخارجية عن منطقتي الشرق الأدنى وجنوب آسيا، بالإضافة إلى البلقان. وحفلت الحياة العملية لريتشارد هولبروك بكثير من النجاحات التي لا تتحقق عادة لشخص على مدار حياته. وعلى الرغم من أنه لم يصبح مطلقا وزيرا للخارجية ولم يحصل على جائزة نوبل للسلام (وكان مرشحا لكليهما)، فإن ما حققه من نجاح كدبلوماسي ساعد كثيرا في تشكيل النفوذ الأميركي دوليا، وربما يكون ذلك بصورة أكبر مما ساهم به معظم وزراء الخارجية الآخرين في الماضي.
ومن فيتنام إلى البوسنة، أصبح هولبروك عنصرا لا يمكن الاستغناء عنه في الحكومة الأميركية. وكانت قدرته على البقاء في الصدارة أمام القضايا شديدة الحساسية في السياسة الخارجية الأميركية، منذ نهاية الحرب الباردة، هي ما ميزه عن الباقين. وعلى الرغم من تعدد إسهاماته في العمل الدبلوماسي خلال الأعوام الخمسين الأخيرة، فإنه من المرجح أن أكثر ما سيُذكر به هو الأثر الذي تركه على الحرب في أفغانستان عندما كان مبعوثا خاصا إلى المنطقة - وهو المنصب الذي تقلده في يناير (كانون الثاني) عام 2009.
وبصفته مسؤولا عن إدارة الجانب المدني من الحرب، كان هولبروك يملك تأثيرا محدودا على الاستراتيجيات العسكرية التي كانت تنفذ. ولكنه بذل أقصى ما في وسعه لتعويض أوجه القصور التي وجدها في هذه الاستراتيجيات. وعلى وجه التحديد، اعتقد هولبروك أنه من المستحيل تحقيق نصر عسكري، على الرغم من أن هذا كان النهج الأولي الذي تبنته الحكومة.
وبدلا من ذلك، أيد هولبروك نائب الرئيس جو بايدن في شكوكه بشأن التدخل العسكري في أفغانستان، ولم يعتقد أنه إذا سيطرت طالبان على البلاد، ستتبعها «القاعدة» في المستقبل. وفي ما يخص مهمته المدنية، تصدر جدول أعماله من أجل تهدئة الأوضاع في أفغانستان استيعاب فكرة أنه لا يمكن أن تحل المشكلات الأمنية هناك من دون التعامل مع باكستان. وفي ظل روابط وثيقة لا يمكن فصلها بين هاتين الدولتين، اعتبر الأفغان أن هولبروك أحيانا ما يفضل المصلحة الباكستانية.
تولد الشعور بالاستياء من هولبروك في أفغانستان في البداية بسبب تأكيده الدائم على وضع حد للفساد في البلاد. أراد من كرزاي أن يقضي على الرشاوى التي تعاني منها الحكومة الأفغانية، وألح على وقف زراعة الأفيون، التي تمول محاصيله عمل المتمردين في الحرب. ومن المؤسف أن هذه الأهداف لم تجعله على علاقات جيدة مع المزارعين الفقراء الذين شهدوا انخفاضا في أسعار القمح، وفي النهاية لم تتأثر السوق السوداء للهيروين بجهوده.
وفي باكستان، حظيت سياسات هولبروك بنظرة أكثر إيجابية. بعد إصراره أمام الكونغرس على أن الديمقراطية في باكستان تعتمد على تقديم مساعدة تنموية كبيرة. وقد ضَمِن تأييد الكونغرس. ولكن ما لم تحبذه باكستان هو أنه فعل كل ما في وسعه لإقناع الحكومة التي تستضيف أعضاء من طالبان وتابعيهم، من بينهم شبكة حقاني، بأن ذلك يحول دون استقرار باكستان إلى حد كبير.
وفقا لما ذكره كريستوفر ديكي من «نيوزويك»، تسببت استراتيجية هولبروك في أفغانستان وباكستان في إزعاج البعض من دون قصد، ولكن يحترم الأفغان والباكستانيون «الرجل بفضل أسلوبه المباشر وإخلاصه. فلم يحاول هولبروك مطلقا أن يخدع أي أحد بتوصيل رسالة ما إلى إحدى الدول ورسالة متناقضة إلى دولة أخرى». وعلى الرغم من احترام الأفغان له، فإن ردود الفعل على وفاته تشير إلى أن أفغانستان كانت تشعر بأنها تلقى معاملة من هولبروك أقل محاباة من باكستان. ووفقا لصحيفة «واشنطن بوست»، صرح وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي بأن وفاة هولبروك «تركت فراغا كبيرا»، في حين أشار المستشار القانوني لكرزاي نصر الله ستانيكزاي إلى أن «وفاته لن يكون لها أي أثر على الوضع في أفغانستان على الإطلاق.. لقد كان يعطي اهتماما لباكستان والهند أكبر من أفغانستان».
لم يكن هولبروك يتأثر بالثناء أو الانتقاد الذي يقابله. وكان بدلا من ذلك يعرف بوضوح مسؤولياته كممثل خاص - وهو اللقب الذي أصر على تمييزه عن لقب مبعوث. وفي حوار نشر في «نيويوركر» مع جورج باكر منذ أكثر من عام، قال هولبروك: «إن (مبعوث) كلمة دبلوماسية أنيقة.. ولا اعترض عليها. إنها تمثل تكريما وقيمة.. وتعني أنك مرسل لفعل أشياء. ولكني موكل بمهمة مختلفة». الفرق بين عمل المبعوث والممثل في رأي هولبروك، كما نقله باكر، أنه «بالإضافة إلى كونه مرسلا إلى المنطقة، كان على هولبروك أن يدير عمليات تتعلق بالجانب المدني في السياسة الأميركية. كان سينشئ قسما إقليميا داخل وزارة الخارجية الأميركية.. ترسل مكاتبه في أفغانستان وباكستان تقاريرها مباشرة إليه».
لا تعد الطبيعة الجازمة التي تظهر في توضيح هولبروك لمنصبه جديدة عليه. عندما كان طالبا في السنة النهائية في جامعة براون عام 1962، كان دبلوماسي المستقبل مترددا بين أن يصبح رئيس تحرير «نيويورك تايمز» أو وزيرا للخارجية. وسريعا ما اتخذ قراره عندما لم يحصل على وظيفة في الجريدة بعد تخرجه. وبدلا من ذلك، ذهب هولبروك إلى فيتنام كمساعد خاص لسفيرين. وقبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، كان كاتبا رئيسا لفصل في أوراق البنتاغون، الوثائق بالغة السرية التي سجلت التدخل العسكري الأميركي في فيتنام. وأصبح بعد ذلك مساعدا لوزير الخارجية للشؤون الآسيوية، في ظل حكومة الرئيس الأسبق جيمي كارتر، ثم سفيرا لدى ألمانيا تحت رئاسة الرئيس الأسبق بيل كلينتون. ووصل إلى أوج نجاحه العملي عام 1995، عندما استطاع جلب جميع الأطراف في صراع البوسنة إلى طاولة المفاوضات.
عندما كان رئيسا لمجلس إدارة الائتلاف العالمي للشركات ضد الإيدز، وبصفته المندوب الأميركي الدائم لدى الأمم المتحدة، حقق هولبروك أيضا خطوات مهمة في توعية المجتمع الدولي بأهمية التصدي للإيدز وأمراض أخرى، من بينها السل والملاريا. ولا داعي للقول إن التأثير الإيجابي الذي حققه على حياة الناس حول العالم كان فريدا.
وكما أشار روبرت غيبس المتحدث باسم البيت الأبيض، «سنفتقد بشدة» هولبروك. لقد كان «عملاقا في السياسة الخارجية ولا يمكن أن يحل محله أحد».