[center] [b]
:: تمرّد....قصة قصيرة ::
الكاتب : د. روفائيل بشارة
كنت على الشرفة في ضيافة القمر، استمتع بشرب فنجان من الشاي، عندما فاجأني أخي أخي بلهجةٍ ساخرة؛
"سيزوّج مدحت إبنة أخيه مريم، إلى ابنه عماد".
رحت أتأمله مذهولة... تعثرت الكلمات على لساني، فلم أعد أملك سوى الصمت.
لماذا القدر يتربص بي؟... ينتزع مني بلحظة اعزّ ما لدي. أيعقل أنَ يتزوّج عماد ابنة عمه، وهو من أشدَ المعارضين للتزاوج بين أبناء العم. أي حماقة هذه؟
وكيف يقع بحب فتاة غيري... وكنا حبيبين لسنين طويلة. وبيننا الكثير من لحظات السحر والعواطف والانفعالات ،ألم يقل لي قبل أسبوع فقط؛ إنه يريد التحدث معي على انفراد. فما الذي غيِّره الآن؟ وما الذي يستهويه في فتاة دميمة مثل مريم. ألا يرى وجهها البَثِر... أنفها الأحجن... عينيها الصغيرتين!؟ ما الذي يجعله يقع بحبّها وليس فيها شيء محببٌ إلى القلب!؟ ألا يشعر بغلاظتها وعجرفتها وسخافة حديثها!؟
تراها ثروتها التي تغريه؟ يضمُ ميراثها إلى ميراثه فيصبح أعظم جاهاً وأكثر ثراء؟
آهٍ منك يا عماد كم تغيّرت! كنت أحسبك ذا عقلٍ راجح وتفكير سليم. لكنّك كمعظم الرجال؛ يستهويك المال والذهب، وتسلب لبَك المزارع والحقول.
استمرّ صمتي لفترة كنت خلالها أراقب أخي دون أن اُبدي أيّ إشارة قد تهديه إلى العلاقة السريّة التي تربطني بعماد.
ولمَا لم يسمع مني أي تعليق، أضاف:
- ونحن، أمي وأنا، مدعوان إلى السهرة في منزله هذه الليلة.
تريثت قليلا قبل أن أسأله بهدوء:
- وماذا عني؟
ضحك بخبثٍ وقال:
- طبعا أنت ذاهبة معنا. فهل يجوز أن تقضي السهرة وحدك في المنزل؟
نهضت على الفور إلى غرفتي لأرتب مظهري، وأضع بعض المساحيق على وجهي، مع أنّ التبرّج لم يكن مستحباً في قرانا. كان هدفي أن ألهب مشاعر عماد كي يعود إليّ. وكنت أراهن على جمالي لأنه الشيء الوحيد الذي أتفوّق به على مريم.
في الطريق إليه، كانت تغمرني فرحة سريَة، كتلك التي غمرتني يوم قال لي أول مرة "أحبك". كان في عينيه بريق رائع من الشوق والحنان، جعلني أشعر أنَ قلبي يكاد يثب من صدري لشدّة ما اعتراني من فرح مباغت.
عندما وصلنا إلى منزله، كنت قد أعددت له الكثير من الكلمات والعواطف... وكنت ملأى بالإنفعال والحماس والأمل. لكنّني سرعان ما منيت بالإحباط، حين استقبلني بذلك الفتور الغريب كأنه لا يعرفني.
جلست قبالته صامتة، أستجدي منه ولو إشارة صغيرة، أفهم منها أنه مرتاح لوجودي. إلاّ أنه ظلَّ غير مكترثٍ، كأنه لا وجود لي.
ثبّتُ نظري عليه، علَه يبادلني ولو نظرة واحدة تجيبني على أسئلة كثيرة، كانت تحتدم في نفسي. لكنَّ نظراته كانت مبعثرة، ضائعة لا رجاء منها ولا معنى لها. لم تحمل إليَ سوى اليأس والقلق والخوف وعدم اليقين.
وأكثر ما آلمني وبدّد آمالي قوله:"الزواج الذي لا يقوم على أساسٍ ماديّ محكومٌ عليه بالفشل".
لم أتصدّ لهذا الرأي الخاطيء، الذي يتعارض مع مبادئي. كنت أعلم أنَ النقاش معه بوجود مريم، لن يُجدي نفعا. فهيَ ابنة عمه، وتمتلك الحسب والنسب والثروات. أمَا أنا فلا أملك سوى جمالي وعفتي وفقري وأبي؛ الذي يعمل في حقولهم. فالتنافس معها، لن يكون لصالحي، وربما ينتهي بي إلى الندم.
بعد تلك السهرة، تملكتني كآبة مؤلمة. فأصبحت بحاجة إلى الكثير من الراحة والهدوء.
غادرت القرية لأعيش فترة عند خالتي علني أستعيد طاقتي المفقودة.
وما إن مضى بعض الوقت، حتى نسيت كل الإساءات التي لقيتها من عماد، وعاد حبه إلى قلبي، كما كان في بدايته الرائعة. فرجعت إلى أهلي بقلب صاف ونفسٍ مفعمة بالأمل.
وذات يوم... على غير موعد جاءني يحبو. قال:
- تلك كانت أشدّ الحماقات. أنا آسف على كلّ ما تسببّت لك من ألم في تلك السهرة.
ودون كثير من التردد والتفكير، تواعدنا على الزواج، رضي أباه أم لم يرضَ.
***
ستة أيام فقط؛ مضت على هذا اللقاء. وفي اليوم السابع أيقظتني أمي باكرا، لتزفّ لي خبرا، كانت تعتقد أنني سأطير فرحا عند سماعه. قالت :
- إنهضي، خالتك قادمة مع ظافر لطلب يدك.
لم أستوعب أول الأمر ما قالته أمي. كنت متعبة ولا قدرة لي على التفكير. لكنني بعد لحظات تنبّهت إلى كلامها فاستولى عليّ الذعر.
كيف لابن خالتي أن يفكّر بطلب يدي ونحن كالإخوة. كيف لهذا الشيء الجميل الذي نما بيننا على مرّ السنين؛ أن يتحول إلى شيء مقيط. ولماذا لم تسألني أمي إن كنت أوافق على هذا الزواج.
هي لا تؤمن بالحب، ولا تعرف أنّ جمال الحب يكمن في الدخول اليه من بابه الخفي دون تصريح من أحد.
جلست أنتظر قدوم ظافر، علّنا نتفاهم. فهو يفكّر بمنطق سليم ويمتلك عقلا راجحاً ومنفتحاً.
لما وصل، انفردت به. كان الجو مثيراً للشجون. قال:
- أتذكرين وصية أبي الأخيرة؟
التقطتُ أنفاسي، إذ عاد إلى ذاكرتي ما قاله أبوه قبل أن ينتقل إلى مثواه الأخير "أنتِ لظافر"
إذاً؛ فأنا مخطوبة لظافر منذ نعومة أظفاري؛ حين خرجتْ من فم ذلك الرجل تانك الكلمتان اللتان، يومها، عبَرَتا أذني بلحظة سريعة، وما كنت لأتذكّرهما الآن، لولا أنّ زوج خالتي كان على فراش الموت.
لقد رسم ذلك الرجل قدري بكلمتين وحيدتين، وأنا طفلة في العاشرة من عمري. كلمتان فقط، لم تعنيا لي شيئا، ولكنهما كانتا كوصيّة منزلة غير قابلة للتحدي. كدتُ أبكي وأنا أكتشف ظلم القدر، الذي وضعني في هذا الموقف المرعب.
ماذا أقول لظافر. رحت أبحث عن شيء يردّه إلى صوابه... عن أحداثٍ تبيّن له حقيقة مشاعري الأخوية نحوه.
أعدّته إلى أيام الطفولة؛ كيف كنّا نلعب معاً... نأكل معاً... نستحمّ معاً... ننام على سرير واحد. لكنّ ذلك كلّه لم يؤثر به. وظلّ مصرّاً على الزواج بي.
لمّا استحال عليّ إقناعه بالعدول عن قراره الأهوج، قلت له :
- ما أشدّ غباءك إن كنت تعتقد أنني سأستسلم لك. ثق أنني أفضّل الموت على أن أدعك تمسّ جسدي.
ولأول مرّة أراه يبتسم بخبثٍ، ويقول:
- وأنا أفضّل الموت على الزواج من فتاة أخرى.
كيف أقنعه بأنني لا أصلح له زوجة. ماذا أفعل الآن وقد فرغت جعبتي من كل وسيلة.
نهضت أريد الخروج. لكنّه اعترضني وسأل ساخراً:
- هلاّ زلتِ مغرمة بعماد؟
قلت له:
- هذا ليس من شأنك.
قال بغضب:
- أنت الآن ملكي، ومن حقي أن أحافظ على سمعتك.
امتلأ صدري بالإنفعال والغضب يتحكّم بمشاعري منذ اللحظة الأولى! كنت على وشك أن أصفعه لولا أنه محرّم على المرأة في مجتمعنا أن تصفع رجلا.
لم أكن أعرفه بهذه الصورة. لقد تغيّر فجأة، أو أنه كان يخفي عني حقيقته. كيف لم أكتشف منذ البداية؛ طينته المزيّفة... تواضعه الكاذب... أم أنّ كل الرجال على شاكلته.
بلهجة أكثر ودّاً، قال:
- أحقاً أنت لا تحبينني ؟
قلت:
- أحبك كأخ
تجهّم وجهه، وراح يسبّني ويشتمني. ثمّ خرج.
لم تمضِ سوى دقائق معدودة حتى دخلت عليّ أمي. كان وجهها معتكراً كسماء ملبّدة بالغيوم. لم تسألني عن شيء، بل راحت هي الأخرى تكيل لي الشتائم؛ مجنونة،عنيدة، متمردة، متهورة، بلا عقل. وقبل أن تخرج، صفعتني وبصقت في وجهي.
تقوقعت في مكاني كمحار، أفكر في ما يدعو أمي، أعزّ مخلوقٍ لديّ، كي تعاملني بهذه الطريقة الهمجية. أليس الزواج من شأني. إنها حياتي، وأنا التي أتصرف بها كما أشاء.
***
في الصبا ح التالي استيقظت على حديث يدور بين ظافر وأمي. بقيت في فراشي كأنّ ذلك لا يعنيني. لكنّ أمي ما لبست أن جاءت لتجبرني على النهوض والجلوس معه. دخلت دون أن أحييه. كنت أتوقع منه أن يعتذر أولاً عن الألفاظ النابية التي صدرت عنه البارحة.
قال بنبرة هادئة :
- جئت اليوم كي نتفاهم
قلت :
- وهل من شيء ينبغي أن نتفاهم عليه؟
قال :
- موعد العرس
فانبرت أمي تقول:
- لا داعي لإطالة الموعد، أنتما تعرفان بعضكما منذ الطفولة.
قال ظاف:
- إذاً، فليكن يوم الأحد بعد أربعة أسابيع.
كنت أتمنى لو أستطيع أن أخيّب أمله، وأفوّت عليه فرصة الإستمتاع بالنصر. لكنني كنت أعلم أنه لم يعد بإمكاني أن أغيّر شيئاً. فلجمت لساني، تاركة لهما أن يرسما قدري. على أنني احتفظت لنفسي بأن أرتكب الجنون، الذي كان لا بدّ منه، في الوقت المناسب....[/b]
[/center]