الثورة التي التهمت نفسها قبل أن تبدأ
طوني صغبيني
*
حين ابتدأت حملة “إسقاط النظام الطائفي في لبنان”، صفّق لها العديد من العلمانيون والمتحمّسون من دون أي تحفظ، البعض فضّل التريّث بانتظار توضّح أهدافها وطبيعة القوى التي تقوم بها، والبعض فضّل ركوب الموجة رغم قولهم صراحة في أحاديثم الخاصة أنهم لا يتأملون شيئاً من الحراك. والبعض، مثل حالتنا، وهم الأقلية، رأوا في التحرّك فوضى عارمة وقوى لم تستطع في الماضي أن تنجز أي شيء، لكنّهم فضّلوا التريث في حسم موقفهم من المشاركة لإعطاء التحرّك فرصة بلورة الأمور والخروج بخطة عمل واضحة تتناسب مع طموحاتهم.
وفيما مرّت الأسابيع وتتالت التظاهرات، بدأت الأخطاء الصغيرة التي كانت تظهر هنا وهناك على الصفحات وفي التظاهرات إلى التحوّل لخطايا مريعة، تصاعدت فداحتها كل أسبوع، حتى بات التأثير السلبي للتحرك اليوم على قضايا العلمانية والمواطنة والعدالة الاجتماعية أكبر بكثير من أي تأثير إيجابي. هذا ولم نتحدّث بعد عن أن التحرك نجح في استعداء معظم العلمانيين الذين تجرأوا وانتقدوه بدل أن يحاول كسبهم إلى جانبه. والأمر يبدو لمن ينظر إلى الصورة الأكبر كأن الحملة لا تريد للكفاءات “المستقلّة” أن تلعب دورها فيها حيث أنها تُدار من قبل مجموعات مغلقة، صدّقت أنها قيادة ثورة، تجتمع مع بعضها البعض في مواعيد لا تعلنها لأحد، لتقرّر عن الآخرين ما يجب عليهم فعله.
وفي المحصّلة اليوم، وحتى إن لم نكن نريد أن نكون دراماتيكيين، لكن من الواضح أن حملة إسقاط النظام الطائفي في لبنان حقّقت حتى الآن ما لم يستطع النظام الطائفي القيام به منذ نهاية الحرب الأهلية حتى اليوم؛ فهي استولت على لحظة تاريخية لن تكرّر قريباً في العالم العربي، وعلى حماس شريحة شبابية كبيرة (وجديدة) من اللبنانيين، ثم ألقت بها وبالحماس والجهود في البحر، في مكبّ النفايات.
في سياق رؤيتها الاستراتيجية (المعدومة)، رفعت الثورة شعار فضفاض عقيم لا يمكن ترجمته أو صرفه لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في المجتمع على أرض الواقع، ثم حشدت الجهود في هذا الاتجاه وبدّدتها.
...
الحملة هي حتى الآن من أسرع الحملات التي استطاعت خلال وقت قياسي تحويل نفسها من مشروع كبير يتشاركه عدد لا بأس به من اللبنانيين إلى مجموعة معزولة شعبياً وسياسياً وإعلامياً تتخبّط بالإنقسامات والمواجهات الداخلية بين أجنحتها المختلفة. وهي كذلك الحملة التي كانت الأقدر حتى الآن على نقل قضية الدولة العلمانية والمواطنة والعدالة الاجتماعية من هدف سامي نقي ومشروع تغييري طويل الأمد إلى مهزلة يتندّر عليها الجميع وإلى مشروع مشبوه يركبه الوصوليّون والطائفيون، يشكّك به العلمانيون ويخافه كل مواطن لا يمتلك أكثرية عددية مسلّحة في حديقته الخلفيّة.
فوق ذلك كلّه، استطاع التحرّك أن يغيّر مفردات التغيير الاجتماعي نحو الأسوأ بحيث أصبحت التظاهرة غاية وإنجاز نادر فيما أصبح النقد والتفكير والتخطيط والتروّي تهمة و”نخبوية” و”اندساس”. وفوق ذلك كلّه، لم تنتظر هذه الثورة (التي لم تستحقّ لقبها أساساً) استلام الحكم لكي تبدأ إعدام المعارضين، بل بدأت مسيرتها بقمع المختلفين عنها بالعنف الكلامي على الصفحات الالكترونية وبالعنف الفعلي على أرض الواقع (نشكر القدر على أن بعض “المنظّمين” لا يمتلكون سوى صلاحية حذف الأعضاء من صفحات الفايسبوك، لأنهم لو امتلكوا السلطة لكانوا بدلاً من ذلك يوقّعون على مراسيم المحاكمات العرفية). الحملة أرادت أن تنقذ لبنان من ديكتاتورية الساحتين، فإذ بها تتحول إلى عشرين ساحة تتقاتل مع بعضها بعضاً، وكل منها نسخة منقحة (وأحياناً أسوأ) عن الأحزاب والزعامات التي تحاربها.
وكما لو أن كل ذلك لم يكن كافياً، اختارت الحملة (وجوّها الداخلي العام) سياسة دفن الرأس في الرمال والتعمية على الحقائق عند كل مفترق طرق، فلا هي تعترف بوجود انقسام سياسي ووجودي حقيقي في البلد، ولا هي كانت تريد الاعتراف حتى بانقسامها على بعضها رغم أن الشرخ موجود منذ اليوم الأول، ولا هي تريد أن تفهم مخاوف الطوائف وواقعها الحالي، ولا هي ترى أن وجود واقع طائفي مسلّح يجعله المستفيد الوحيد من أي تغيّر في ميزان القوى، وهي لا تريد أساساً الاقتراب من معالجة المواضيع الشائكة كالعنف السياسي، أو الاعتراف بأن المشكلة الاقتصادية والوضع المعيشي لم يتسبّب به النظام الطائفي حصراً، ولا هي تريد أن تعترف أن عقليّة القمع والرأي الواحد والصفوف المرصوصة والتلقين العقائدي هي جزء من ثقافة معظم المشاركين والمنظّمين في الحملة وليست مجرّد أخطاء تنظيمية عابرة.
ورغم كل الفشل الذي شابها حتى الآن (الأخطاء الكبيرة حجبت كل الإيجابيات)، مثل الفشل في التخطيط والسياسة الإعلامية والتنظيم والتواصل مع المواطنين والقراءة والتعاطي السياسي، والفشل حتى في إدارة اجتماع بطريقة هادئة، لا يوجد هناك أي طرف في الحملة مستعدّ ليعترف بالخطأ أو ليتحمّل المسؤولية عن أي خلل حصل. فحين يكون هنالك إنجاز ما، نرى عشرات الأحزاب والمجموعات المنظّمة والأفراد تنسب النجاح لها، أما حين يكون هنالك فشل، ولو بسيط، لا نجد أحداً يتحمّل المسؤولية (وهذه هي منافع عدم وجود قيادة واضحة للتحرّك في حال لم ننتبه لذلك بعد).