مصالحه فلسطينية أم ترقب وانتظار
معين الطاهر
لم تأتِ المصالحة المفاجئة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس استجابة للحراك الشبابي الذي شهدته ساحات المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والذي تراوحت شعاراته ما بين إنهاء الإنقسام، وصولاً إلى دحر الاحتلال وإعادة بناء منظمة التحرير.
السلطتان، كلاهما، حاولتا بدايةً منع هذا الحراك، وعندما فشلتا في ذلك، لجأتا إلى محاولة ركوب موجته وحرف أهدافه، كل بما يتوافق مع سياساتها. ومن ثم محاصرته حين حاول الخروج عن طوق الوصاية، إنتهاءً بقمعه بقوة أجهزة الأمن عندما تجرّأ على الاقتراب من الحواجز الإسرائيلية في الضفة، انسجاما مع سياسة التنسيق الأمني المعمول بها، وتحسّبا من انطلاق شرارة انتفاضة ثالثه ممنوعة وجوباً بحسب تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
كانت هذه المصالحة قد استعصت سابقا على المبادرات الفلسطينية والعربية وحتى التركية طيلة هذه السنوات منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة. ولم تفلح حتى الحرب الإسرائيلية على غزة في ردم هوة الانقسام، بل لعلها زادتها اتساعا نظراً للموقف المتخاذل والشكلي الذي اتخذته سلطة رام الله من العدوان الصهيوني على غزة. وكان الخلاف، بل والتناقض في النهج السياسي بين الطرفين، وهو خلاف بين نهج المقاومة ونهج التفاوض العبثي المفتوح على مصراعيه دون كوابح، من أهم الأسباب التي حالت دون الوصول إلى المصالحة المنشودة. وعمّق من هذا الخلاف محاولة نظام الرئيس حسني مبارك وعمر سليمان الضغط على حركة حماس، وفرض أجندته عليها وإلزامها بشروط الرباعية، ضمن أمور أخرى.
كلا الطرفين كانت له أولوياته التي تتناقض مع خيار المصالحة مع الآخر. فالسلطة الفلسطينية راهنت على الوصول إلى حل عبر المفاوضات المباشرة وغير المباشرة برعاية الوسيط الأمريكي ميتشل، ووافقت على شروط الرباعيه، وانخرطت في عملية التنسيق الأمني باشراف مباشر من الولايات المتحدة مع سلطات الاحتلال. واعتقدت في مرحلة ما أن هذا الاتفاق قابَ قوسين أو أدنى، وأن إنجازه سيعزل حركة حماس والقوى الفلسطينية المعارضة لهذا النهج، وبهذا ارتأت السلطة أن إنهاء الانقسام في تلك المرحله سيكبّل أيديها، ويعيق مرونتها المطلوبة لتقديم تنازلات إضافيه، كما سيسيء لعلاقتها مع الأطراف المقابلة، وخصوصا أن جوهر عملية السلام الأمريكية كان قائماً على تقسيم المنطقة الى محورين للخير والشر. وبذلك فإن استمرار الانقسام والفرز والانحياز إلى معسكرات مختلفه كان جزءاً من جوهر هذه السياسة.
أما فيما يتعلق بحركة حماس والتي خرجت منتصرة بعد حرب غزه، فقد ارتأت انسجاماً مع نهجها السياسي أن تستمر في قيادة محور الممانعة الفلسطيني، وأن تصمد أمام ضغوط الحصار على غزة، وسياسة التلويح بالجزرة والعصا المصرية، والتهديدات الصهيونية بإعادة اجتياح غزة، وإجراءات التنسيق الأمني في الضفة، وسَعَت خلال ذلك إلى تعزيز سلطتها على غزة وإعادة بناء قوتها العسكرية فيها، ومحاولة نقل بعض فعالياتها المقاومة إلى الضفة الغربية (عملية الخليل) لإعاقة أي تقدّم في عملية التسوية.
واذا كان هذا الخلاف المنهجي العميق في الموقف السياسي، وحول المقاومة والمفاوضات، وطبيعة وشروط الحل وانقسام المنطقة إلى محور للمقاومة والممانعه ومحور للتسوية، وموقف النظام المصري الراحل والإدارة الأمريكية قد أعاقا ومنعا الوصول لإنهاء الانقسام الفلسطيني، فما الذي استجد حتى هرع الطرفان إلى القاهرة للتوقيع على اتفاق المصالحة، متجاوزين كل ما اثير سابقا من خلاف حول السياسة والمفوضات والأمن والانتخابات والشرعية....؟ وهل ما تمّ الوصول إليه والاتفاق حوله يبشر بمصالحة فلسطينية حقيقية وبانسجام في المواقف والرؤى، أم أنه اتفاق مرحلي يكرّس بقاء الوضع القائم وينظم بعض شؤونه، ويرحِّل الخلافات القائمة إلى أجلٍ قادمٍ بانتظار وضوح بعض المستجدات العربية والمواقف الإقليمية والدولية، علها تحسم الموقف لصالح أحد الطرفين؟
ولعلنا هنا نحاول تسليط بعض الضوء على بعض المتغيرات التي عصفت بمنطقتنا، وأدّت في ما أدت إليه إلى هذا التغيير المفاجىء في مواقف الطرفين. إذ يبدو جلياً أن التحوّل الأكبر يكمن في الزلزال الكبير الذي ضرب المنطقة العربية، وكان مركزه في مصر. والذي أدّى إلى الإطاحة بنظام حسني مبارك، بعد نجاح ثورة تونس في الإطاحة ببن علي، وما زالت أصداء هذا الزلزال تتردّد في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين وغيرها من الأقطار العربية. بحيث بات يمكننا القول أن ما من دولة عربيه ستسلم من بعض نتائجه، وأن هنالك إعادة صوغ للوضع العربي بمجمله.
وإذا كان نظام الرئيس مبارك هو السند العربي الرئيسي للسلطة الفلسطينية والضامن لبقائها واستمرارها، والذي يقوم بتغطية مواقفها على الصعيد العربي. إلاّ أنه من جهة أخرى شكّل بوابة العبور للضغط الأمريكي الصهيوني عليها للقبول بالدخول في مفاوضات تلو الأخرى والانتقال من صيغ وآليات إلى سواها من أجل تقديم تنازلات إضافية.
وبذلك يكون سقوط نظام الرئيس مبارك قد أضعف سلطة الرئيس عباس من جهة، لكنه أيضاً حررها من الرضوخ لمزيد من الضغوط باتجاه استئناف المفاوضات العبثية، وحرم الإدارة الأمريكية من أداة طيّعة في الضغط والتحكم بالمسار الفلسطيني. وأضعف قدرتها على الضغط على كل من السلطة وإدارة نتنياهو، وبذلك تراجعت احتمالات العودة إلى المفاوضات المباشرة، ولم يبقَ أمام الرئيس عباس والسيد سلام فياض سوى ما يعرف بخيار أيلول/سبتمبر. هذا الخيار القائم على اللجوء إلى مجلس الأمن للاعتراف بدولة فلسطينية في حدود 1967، وهو ما سيصطدم على الأرجح بفيتو أمريكي مما يحتم العودة للجمعية العامه للأمم المتحدة، وإعلان دولة فلسطينية من طرف واحد.
إن هذا الخيار لا يخلو من المخاطر، لعل أهمها قيام دولة الكيان الصهيوني بإعلان ضم الأراضي الفلسطينية خلف الجدار والقدس والمستوطنات والأغوار إلى دولة العدو، كردٍّ على الاعلان الفلسطيني، وتحويل ذلك إلى أمر واقع . وهنا يجدر الانتباه إلى احتمال قيام دولة العدو وبشكل مسبق بالإعلان عن انسحابات أحادية الجانب من بعض مناطق الضفة بحيث ترسم هي وبإرادتها وحدها حدود الدويلة التي ستعلن عنها السلطة. كما يرجّح أن تبذل بعض الدول الأوروبية وربما الولايات المتحدة أيضا جهوداً لترتيبات ولو من خلف الستار لجعل هذا الانتقال يمرّ عبر مخاطر أقل ومحاولة ضمان عدم تدهور الأمور وتطور الأوضاع بعده .
على أن ما يعنينا هنا هو أن السلطة في رام الله وبعد أن تراجع احتمال العودة للمفاوضات، واتراجعت احتمالات التسوية المتفق عليها. وفقدت حليفها الأساسي (نظام مبارك)، ولم يبق أمامها سوى استحقاق ايلول/ سبتمبر كما تسمّيه، وسوى انتظار ما سيؤول إليه الوضع العربي. فإنها لتمرير ذلك الاستحقاق، باتت بحاجة للظهور أمام العالم بموقف فلسطيني موحّد، ولو شكلاً، بين جناحي الوطن، إذ لا يمكن إقامة دولة فلسطينية على أشلاء من الضفة الغربية فحسب. ومن هنا كان سعيها وموافقتها على هذه المصالحة.
أما فيما يتعلق بحركة حماس، فهي بلا شك تدرك حجم التأثير الذي تركه انهيار نظام الرئيس مبارك على السلطة الفلسطينية وعلى الوضع العربي ككل. بل لعلها أحد الرابحيين الكبار من الثورة المصرية، إلاّ أنها بحاجة إلى مزيد من الوقت كي يستقرّ اتجاه السياسة المصرية بعد انتخابات مجلس الشعب والرئاسة، ومدى ما يمكن أن يحرزه ممثلو الاتجاه الإسلامي والقومي من نتائج. وإن كانت بوادر هذه السياسة ودورها العربي والفلسطيني قد بدأت في التشكل عبر إجراءات مثل فتح معبر رفح، وتصريحات نبيل العربي وسامي عنان، والحديث المتزايد عن إعادة النظر باتفاقيات الغاز أو فتح مكتب لحركة حماس في القاهرة.
لذا فإن تقدم حماس باتجاه المصالحة سيمنحها نقطة ارتكاز هامة مع مصر (مكتب تمثيل، حرية انتقال القيادات من وإلى غزه، رفع الحصار، موقع سياسي وإعلامي) وربما انتقال بعض قيادات حماس للإقامة في مصر أو الانتقال إلى غزه بموافقه مصرية. وهي بأمسّ الحاجة إلى خطوات مثل هذه خصوصاً وهي في خضم التغيّرات التي تجتاح عالمنا العربي وخصوصاً في سوريا، مركز قيادة الخارج في حماس الآن، وما قد يفرضه عليها من استحقاقات في المستقبل القريب.
إضافة الى ما سبق، ترى حماس أن هذا الاتفاق يمكن أن يتحقق دون أن يرتب عليها دفع ثمن سياسي، كالذي كان مطروحاً عليها أيام عمر سليمان وشروط الرباعية. فإن توقف المفاوضات بين السلطة ودولة العدو، وتراجع احتمالات الوصول إلى تسوية متفق عليها، ولجوء السلطة إلى استحقاق أيلول/سبتمبر سوف لن يلزم حماس أو يطلب منها في هذه المرحلة على الأقل أن تلتزم بشيء مثل الإعتراف باتفاق أو الدخول في عملية تسوية أو اعتراف متبادل.
وهكذا يمكن تلخيص الوضع الحالي بأن ثمة منفعة متبادلة للطرفين في هذه المصالحة، التي لن تغيّر شيئا في مواقفهما ولا في مواقعهما على الأرض. وستمنحهما الوقت الكافي لرؤية المتغيّرات الكبيرة التي تعصف بمنطقتنا، والتفاعل مع آثارها الفلسطينية والعربية والإقليمية. أما في الداخل الفلسطيني فإن على التوقعات أن تبقى متواضعة، إذ سيحتفظ كل طرف بالسيطرة المطلقة على منطقته، وستبقى الأجهزة الأمنية على حالها مع بعض التعديلات الشكلية، سيتم الإفراج عن المعتقلين، ولكن لن يتم السماح للطرف الآخر بتجاوز خطوط محددة على المستوى التنظيمي والأمني . قد يطرأ تراجع على مستوى التنسيق الأمني مع الاحتلال نتيجة ردّات فعل العدو على المصالحة وتخبّط الادارة الأمريكية في إدارة شؤون المنطقة. حكومة الخبراء ستكون حكومة خدمات يتفق الطرفان على أعضائها. ستمنح المصالحة الرئيس عباس فرصة عبور استحقاق أيلول/سبتمبر دون أن تلزم حماس في شيء. أما الرهان على الوصول إلى انتخابات تشريعية ورئاسية ومجلس وطني بعد سنة، فهي ليست أكثر من تأجيل لهذه الاستحقاقات حتى ذلك التاريخ، حيث تظل كل الاحتمالات مفتوحة خصوصاً في ظل ردة فعل العدو وإجراءاته، وفي ظل ما ستسفر عنه الثورات العربية. أي أن المصالحة الفلسطينية بصيغتها الحالية ليست أكثر من ممر إجباري على الطرفين عبوره، ليقرّرا بعده طبيعة المرحلة الجديده التي لا نراها إلا استمراراً للمقاومة المجيدة للشعب الفلسطيني مدعوماً هذه المرة بثقل أمتنا العربية وجهدها. إنها مصالحة الانتظار والترقب.