الأطباء المتخصصون قلائل... والمرضى بالآلاف
عراقيون يعانون تأثيرات الحروب النفسية ويرفضون العلاج
وسيم باسم من بغداد
مرضى نفسيون عراقيون في أحد المستشفيات يعاني آلاف العراقيين أمراضًا نفسية، معظمها نتيجة الحروب وسنوات الاقتتال الطائفي ومشاهد العنف، وضلوع المرضى في أحداث ولّدت لديهم حالات، يرفض كثيرون منهم الاعتراف بوجودها، ويعزفون عن معالجتها بسبب ثقافة العيب، كما إن عدد الأطباء النفسيين المتوافرين يقلّ عن الحد الأدنى المفروض.
بغداد: في الوقت الذي تشير فيه الظواهر الميدانية إلى ارتفاع كبير في أنواع الأمراض النفسية بين شريحة واسعة من المواطنين العراقيين، فإن المؤسسات الصحية والمجتمعية تقف عاجزة أمام استيعاب هذه الكمّ المضطرد من المرضى، ليس بسبب نقص المؤسسات العلاجية والأطباء النفسانيين فحسب، بل بسبب العزوف المجتمعي عن المعالجة، مما أدى إلى تفاقم الظاهرة، الى الحد الذي أضحت فيه قضية رأي عام يتداولها الشارع العراقي.
ومع أن العراقيين يشتركون في الكثير من الأمراض مع الشعوب الأخرى، إلا ان أمراضهم العقلية والنفسية ناجمة من تأثيرات الحروب.
العنف.. وردود الأفعال العنيفة
وبحسب الطبيب النفسي سليم البياتي في بغداد، فإن نوبات الغضب السريعة والتشنج وردود الأفعال العنيفة تجاه الأحداث اليومية، مثل الضرب واستخدام السلاح حتى في الخلافات البسيطة، تشير الى حالات نفسية تحدث يوميًا.
ويصف البياتي حالة أحد مرضاه الذي يعاني اكتئابًا حادًا، تحول في ما بعد الى سلوك عنفي، حيث قادته حالته النفسية السيئة الى محاولة الانتحار، لكنه أنقذ في اللحظات الأخيرة. ويقول ان الأمراض النفسية تتركز في المدن والمناطق الحضرية، لاسيما التي شهدت حروبًا ونزاعات طائفية وأعمالاً مسلحة.
ثقافة الخجل والعيب
ويقول البياتي إن ما يعوق العلاج في العراق هو أن الناس لا يحبذون الخوض في تاريخ مرضهم النفسي، بسبب ثقافة (الخجل والعيب) المترسّخة في الذهنية العراقية.
ويشير البياتي إلى قائمة طويلة لمرضى تضمنها حاسوبه الشخصي، يعانون الوسواس القهري والذهان والبوليميا، لكنهم يرفضون الاعتراف بحقيقة مرضهم، ويعتبرونه حالة عابرة.
وتشير تقارير لوزارة الصحة العراقية عام 2010 الى ان حوالى الثلث من العراقيين يعانون اضطرابات نفسية، وأن عام 2009 شهد مراجعة 100 ألف مريض للمستشفيات والمراكز الخاصة.
رفض العلاج
لا يبدي الشاب كريم حسن اعترافًا بما يعاني، كما يرفض المعالجة عند الطبيب، رغم ان أفرادًا من عائلته وأصدقائه نصحوه بفعل ذلك، بسبب نوبات من الهستيريا والغضب تنتابه الى حد السقوط على الأرض ومعاملة من حوله معاملة عنيفة.
وبدا ان حالة كريم النفسية تسوء منذ نجاته من القتل على يد عصابة مسلحة في بغداد اغتالت معظم راكبي حافلة كان يستقلّها هو أيضًا عام 2005.
ويطلق المجتمع على بعض المرضى النفسيين اسم "مخبول" أو "مجنون"، في دلالة على نظرة دونية لهم، وغالبًا ما يهمّشه المجتمع، ولا تعبأ له العائلة بعدما عجزت عن علاجه، ولعدم قدرتها على لجم تصرفاته.
ومنذ نحو خمس سنوات يهيم أبو فاضل في شوارع وأحياء مدينة الديوانية (193 كلم جنوب بغداد). ورغم أن له أسرة وأقرباء، لكنهم اضطروا الى الابتعاد عنه بعدما فشلت محاولات علاجه وإبقائه في البيت.
وما زالت المصحات النفسية في غالبية مدن العراق غير فعالة، وتحتاج توسعًا في أعمالها من الناحية المادية ومن ناحية سبل ووسائل العمل.
وأجري أول إحصاء علمي للأمراض النفسية في العراق في العام 2006، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، حيث أشارت النتائج الى ان نسبة الأمراض النفسية في البلاد بلغت حوالى عشرين بالمائة، وهي نسبة طبيعية مقارنة مع باقي دول العالم على اعتبار أن نسبة الأمراض النفسية في أي بلد تبلغ من 10 الى 20%".
مراكز معزولة
ويقول الطبيب النفسي سعيد صالح من بابل (100 كم جنوب بغداد) ان هذه المصحات فشلت في التكيف مع الحياة بسبب العادات الاجتماعية التي تنظر اليها على انها مراكز معزولة ومنبوذة تضم مجانين.
ويشير الباحث الاجتماعي احمد سعيد الى ان العراقيين لا يهتمون كثيرًا لتشخيص حالات مرضاهم النفسيين، وغالبًا ما يطلقون عليهم "مريض أعصاب" على رغم اختلاف حالاتهم.
ودفعت حالة وائل كريم النفسية، وهو شاب في عشريني من كربلاء، الى الانتحار بسبب عدم قدرته على تحمّل الضغوط المادية والبطالة بعدما فشل في حياته الدراسية.
ويشدد معظم الأطباء النفسيين في العراق على أن هناك استهانة لدى المواطنين بالأعراض النفسية، في حين يتركز اهتمامهم على الأمراض العضوية ويهرعون الى معالجتها.
وفي عيادة الدكتور سمير فاضل الجبوري المتخصص بالأمراض العصبية والنفسية، تلمح الكثير من حالات متدهورة لمرضى بسبب التأخر في علاجها. وبحسب الجبوري فإنه بالإمكان تجنب هذه الأمراض التي بلغت حالاتها القصوى، لو انه تم علاجها مبكرًا.
يختلف الجبوري مع عائلة المريض سعدون حسين، الذي تستدعي حالته رقوده في المصح النفسي، لكن أهله يرفضون ذلك، ويصرّون على انه يعاني أزمة نفسية عابرة فحسب. ويقول إن سعدون يعاني اضطرابًا سلوكيًا ناجمًا من خلل في وظائف الدماغ.
صدمة الانفجار
ويشير الجبوري الى حالة مريض آخر، هو حسين سالم، شاب في الثلاثين من عمره، يعاني الخوف والاكتئاب الحاد نتيجة ”صدمة“ من دون سابق انذار تسيطر على وظائف الدماغ.
وشهد سالم انفجار سيارة مفخخة في بغداد عام 2009، ولّدت حالة من الخوف تلازمه. وبحسب سجلات مستشفى ابن رشد، فإن المستشفى استقبلت حوالى 100 مريضًا يوميًا في عام 2010، فيما سجلت مستشفى الرشاد حوالى 30 مراجعة يوميًا.
ولا يتوافر العراق على احصائيات دقيقة حول حجم الأمراض النفسية في البلاد، لكن دراسات تقويمية تشير الى أضرار نفسية بالغة تخلفها الحروب وسنوات الاقتتال الطائفي ومشاهد العنف.
ويعاني قادر كريم من بغداد توترًا عصبيًا وقلقًا مفرطًا منذ ان شاهد جثثًا لعملية إعدام جماعية قامت بها مجموعة مسلحة عام 2006، على طريق العراق – سوريا، حيث ظلت الجثث في العراء أسابيع عدة.
ويقول كريم ان حالة من القلق الدائم والأحلام المزعجة تقضّ مضجعه، إضافة إلى اليأس، وعدم الرغبة في النوم تنتابه منذ ذلك الحين.
ويعاني الكثير من أطفال العراق حالات نفسية، مثل الخوف، بسبب مشاهد العنف في الواقع والتلفزيون، إضافة إلى مشاهدات ميدانية لجثث مشوهة في الشوارع.
وتشير تخمينات الى ان هناك نحو مائتي طبيب نفسي فقط في العراق لسكان يبلغ تعدادهم 30 مليون شخص. ولا يحبذ معظم طلاب العراق دراسة الطب النفسي ويفضلون بدلاً منه الاختصاصات الطبية الأخرى.
ويقول الطبيب النفسي ليث حميد ان ذلك يعود الى ثقافة اجتماعية عراقية، فمعظم هؤلاء يرون ان التعامل مع "مجانين" أمر صعب، وليس ذا قيمة مادية واجتماعية.
الحبوب المخدرة
ويضيف حميد: معظم المرضى النفسانيين في العراق يحبذون أسهل الطرق في المعالجة، وهو تناول الحبوب المخدرة، مثل الكبسولات "آرتين" التي يفضلها كثيرون، ويتناولونها من دون استشارة الطبيب.
كما يلجأ البعض منهم الى تناول الكحول، مما يزيد من تفاقم حالتهم النفسية من غير ان يعلموا بذلك.
ويبلغ عدد الأطباء النفسانيين في جنوب العراق ثمانية فقط بحسب إحصاءات وزارة الصحة العراقية، فيما تؤكد منظمة الصحة العالمية ان الحد الادنى هو في وجود طبيب واحد لكل خمسة آلاف نسمة.