عبد الباري عطوان
تفردت فرنسا عن جميع نظيراتها الاوروبيات في كونها اول دولة تطبق حظر ارتداء النقاب في الاماكن العامة وتغريم من تنتهك هذا القانون بحوالي 150 يورو، تحت عنوان الحفاظ على الهوية العلمانية للدولة الفرنسية وحظر المظاهر الدينية.
بالامس غرّمت محكمة فرنسية امرأة مسلمة (هند احمس) 120 يورو (164 دولاراً) لارتدائها النقاب في مكان عام، فقررت المرأة الاستئناف، والذهاب الى المحكمة الاوروبية اذا لزم الامر للحفاظ على ما تصر على انه حق شخصي يتعلق بالحريات وحقوق الانسان التي يكفلها القانون.
الذين يؤيدون حظر النقاب في الاماكن العامة يبررون موقفهم بالقول بانه، اي النقاب، يشكل استفزازاً دينياً متعمداً في بلد علماني، مضافاً الى كونه يشكل خطراً امنياً، لانه يتعذر على رجال الامن معرفة هوية من ترتدي هذا النقاب، فهل هو رجل او امرأة، ثم هل يخفي وجه انسان مطلوب للعدالة او ارهابي يحاول الاقدام على تنفيذ عملية ارهابية.
اما الذين يعارضون قانون حظر النقاب فيصفونه بالاجحاف ومصادرة الحريات الشخصية، ويأتي في اطار حالة من العداء للاسلام والمسلمين تنتشر بسرعة وتتوسع في اوروبا بفعل صعود الاحزاب اليمينية المتطرفة، ومضاعفة مقاعدها في البرلمان بسبب الجهر بهذا العداء.
عدد اللواتي يرتدين النقاب في فرنسا لا يزيد عن الفي امرأة، حسب الاحصاءات الرسمية، ونسبة كبيرة من هؤلاء من المتقدمات في السن، وغالباً من الجيل الاول من المهاجرين، ولذلك فان التطرف في تجريم هؤلاء قد يعطي نتائج عكسية تماماً، لانه يصب في مصلحة جماعات اسلامية متشددة تعادي المجتمعات الغربية وحرياتها، وتبحث عن ذخيرة لتجنيد بعض الشبان المسلمين المحبطين العاطلين عن العمل ويعانون من الاضطهاد والتمييز العنصريين.
المجتمعات الاوروبية تميزت دائماً بتقديسها للحريات الفردية وحصنت هذه الحريات بقوانين صارمة، فقد حللت الشذوذ الجنسي، والعري على الشواطئ، والعلاقات الجنسية خارج اطار الزوجية، واباحت كل انواع اللباس واشكاله، فلماذا عندما يتعلق الامر بمجموعة من المسلمات اللواتي يردن التعبير عن معتقداتهن الدينية بطريقتهن يواجهن بقوانين تجرم افعالهن؟
فإذا كانت القوانين العلمانية الفرنسية تحتمل زواج الشاذين جنسياً 'او المثليين' من الجنسين، وتحفظ لهؤلاء حقوقهم كاملة مثل الازواج الآخرين، فلماذا تضيق هذه القوانين وتتحجر في وجه مئات من النساء من مجموع ستين مليوناً، يردن التمسك بمعتقداتهن الدينية وحرياتهن الشخصية. ويرتدين النقاب؟
هذه القوانين على درجة كبيرة من الخطورة، لانها قد تعرض اي امرأة منقبة لسلسلة من المضايقات لا حصر لها، اقلها التحرش بهن شخصياً وجنسياً والنظر اليهن بازدراء، بل وربما عدم خدمتهن في المطاعم والمحلات، ولهذا فضلت اعداد كبيرة من هؤلاء النسوة المكوث في منازلهن وعدم مغادرتها ايثارا للسلامة، وتجنباً لاي مضايقات.
لم نسمع مطلقاً ان امرأة مسلمة منقبة استخدمت النقاب لتنفيذ عمليات ارهابية، ولم نسمع او نقرأ ان رجلاً تنقب من اجل ارتكاب اعمال خارجة عن القانون، بما في ذلك في الدول التي ترتدي غالبية نسائها النقاب، واذا حدث مثل هذا الامر فهو استثناء للقاعدة.
نحن لا نؤيد النقاب، وانما الحرية الفردية للانسان، اياً كان دينه وعقيدته، فها هن النساء الغربيات يسبحن بالبكيني على شواطئ دول اسلامية محافظة، وها هم فرنسيون والمان وامريكان يحتسون الكحول في عواصم عربية اسلامية تحظر بيعها على المسلمين، دون ان تدعي هذه الدول تمسكها بالحريات الشخصية، بل انها تحرم ابناء شعبها منها، وتبيحها للاجانب.
قانون تجريم النقاب الفرنسي مجحف، وينطوي في جوهره على تمييز عنصري ويأتي في اطار حملة يمينية منسقة ضد الاسلام كعقيدة، ولذلك لا بد من التصدي لهذا القانون بالوسائل المشروعة والحضارية لابطال مفعوله، بما في ذلك الذهاب الى المحكمة الاوروبية.
نحن لا نقول للاوروبيين اذهبوا الى بلدانكم اذا كنتم تريدون التعري ومخالفة القوانين والشريعة الاسلامية، مثلما يردد بعض هؤلاء المتطرفين في كل مرة يعترض مهاجر مسلم على مثل هذه القوانين الجائرة المجحفة. ومثلما تستثني المجتمعات والحكومات العربية والاسلامية الغربيين غير المسلمين من بعض الاجراءات والقوانين، وتتسامح مع بعض الممارسات التي تخدش الحياء او تتعارض مع الشريعة، فانه من حق ابناء الجاليات المهاجرة المسلمة في اوروبا الشيء نفسه، اي بعض التفهم والتسامح مع ثقافة الآخر وعقيدته وعاداته وتقاليده.