د. بشير موسى نافع
لم يكن يوم 11 شباط/فبراير 2011 مثل كل الأيام لمدير عام شبكة الجزيرة آنذاك، وضاح خنفر، وللعاملين في شبكة الجزيرة ككل، وفي القناة العربية وغرفة أخبارها على وجه الخصوص. طوال الثمانية عشر يوماً التي كانتها الثورة المصرية، لم يعرف وضاح وطاقم الجزيرة الفرق بين أيام الأسبوع وعطلاته؛ وقد حدث أن سقط مبارك يوم الجمعة، يوم العطلة التقليدية للعرب والمسلمين. ولكن ذلك اليوم، التالي للخميس الذي شهد خطاب الرئيس السابق الأخير، الخطاب المولد للقنوط والمخيب للآمال، كان يوماً مفعماً بالتوتر والعمل، كما بالحزن والتوقعات. ولم يحل الفرح، والشعور الجماعي بالظفر، من امتداد المساء إلى ساعات الصباح الأولى، تماماً كما كل أمسيات تغطية الثورة المصرية السابقة. بعد الواحدة من صباح السبت، أوصل وضاح صديقاً، وقفل عائداً إلى منزله، سالكاً طريق كورنيش الدوحة الجميل، الذي كان يعج بالآلاف من المصريين والقطريين والعرب، المحتفلين بانتصار الثورة المصرية. وما أن توقف أمام اشارة مرور حمراء، حتى تعرفت عليه حشود المحتفلين، التفت حول سيارته، ثم قام بعضهم بفتح أبواب السيارة لإجباره على الخروج، هاتفين بالشكر والتقدير للجزيرة وجهدها الخارق في تغطية ثورة بلد العرب الكبرى، ومحيين مديرها، الذي قلما ظهر على شاشة القناة منذ تولى إدارتها.
في اليوم التالي، كان التأثر لم يزل يغطي ملامح وضاح خنفر وهو يروي لزملائه حادثة ما قبل الفجر السابق. ويوم 27 ايلول/سبتمبر، وهو يتحدث في نهاية حفل وداعي لتكريمه، بعد أيام قليلة على استقالته من منصبه، أقامه شبان وشابات الجزيرة، لم يستطع وضاح منع نفسه من البكاء وهو يعيد رواية حادثة طريق الكورنيش. هذا هو الإعلامي العربي الشاب، الذي قاد الجزيرة طوال ثماني سنوات من نصر إلى نصر، وإلى موقع متقدم على خارطة الإعلام العالمي، يظهر على حقيقته، الحقيقة التي كانت حاضرة دائماً، على الرغم من أن كثيرين لم يلحظوها كما ينبغي، أو حتى لم يلحظوها كلية. كان إيمان وضاح خنفر العميق بالإنسان العربي، صلته الوثيقة والعميقة والدائمة بالناس، حرصه الذي يكاد يشبه المعتقد الديني بضرورة أن تكون الجزيرة صوتهم، وأن تكون شاشاتها صورتهم، هو سر وضاح خنفر المعلن، هو حقيقته الخفية. عندما كان البعض يتهم الجزيرة بالشعبوية، كان وضاح يجادل بأن الناس هم مبرر وجود الجزيرة، وهم معيارها، وعندما كان الناس يُستهدفون، حرباً أو ظلماً أو جوعاً وهجرة، كانت الجزيرة ترتفع تلقائياً إلى مستوى الحدث وتبدو في أبدع لحظاتها.
الآن يغادر وضاح موقعه، يغادره وسط جدل لا يبدو أنه سينتهي قريباً. لم لا وقد أثارت الجزيرة طوال السنوات الماضية من عمرها الكثير من الجدل حول ما تفعله وما لا تفعله في حاضر العرب ومن أجل مستقبلهم، حول دورها البناء ودورها التخريبي في السياسة العربية، وقد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة الملايين من العرب، من غرف جلوسهم، ومن تصورهم لأنفسهم. ولكن وضاح يغادر موقعه وقد احتل مكانة يصعب تجاهلها في تاريخ الإعلام العربي، وفي تاريخ العرب الحديث على السواء. ما يجب أن يذكر الآن أن الشاب الذي تولى قيادة الجزيرة، قناة أولاً، ثم شبكة بعد ذلك، وهو لم يزل في الثلاثينات من عمره، لم يحقق هذا الإنجاز إثر صدفة مجانية، أو بفعل حادثة عفوية ما. بعد عقود من الخراب القيمي، والخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي عاشه المجال العربي، هناك قلة من الرجال الذين احتلوا موقعاً بحجم وأهمية وأثر إدارة الجزيرة، يمكن وصفهم بطهارة اليد، بالالتزام الدؤوب بالعمل، بالقدرة الهائلة على تحمل أعباء هذا العمل بمثابرة نادرة، بالرؤية النافذة للعالم من حوله ولما يريد أن يحققه، بالشجاعة والحكمة، وبالقوة الإبداعية الدافعة. وضاح خنفر هو واحد من هذه القلة. المتحدث الآسر، باللغتين العربية والإنكليزية، هو إضافة إلى ذلك واحد من أبرز مثقفي جيله، يقرأ كما لا يقرأ أكاديميون محترفون، ويقرأ في مجالات متعددة كما يقرأ المتخصصون في مجالهم، من التاريخ والتصوف، إلى السياسة والإدارة والإعلام. ولكن ذلك كله ما كان يمكن أن يكتسب الفعالية التي اكتسبها بدون الإيمان العميق بالإنسان، والبوصلة المؤشرة دائماً إلى هموم الناس وآلامهم.
هل كان يجب على وضاح أن يذهب الآن؟ الإجابة الصحيحة هي بالتأكيد نعم. ولكن السبب، أو الأسباب، خلف ضرورة ذهابه الآن لا تتعلق بحشد النظريات والشائعات، التي يناقض بعضها الآخر، والتي نشرت بتساهل كبير على صفحات وسائل الإعلام العربي والعالمي، المكتوب منها والإلكتروني، ربما إلا في حالات نادرة وفي صورة غير مكتملة أو واضحة. القول بأن برقية مما سربته ويكيليكس من أوراق الخارجية الامريكية، الذي ظهر بداية على صفحات جريدة لبنانية يومية رأت في البرقية وسيلة للانتقام من وضاح خنفر والدور الذي تقوم به الجزيرة في تغطية أحوال الثورة السورية، هو بالتأكيد ترويج لنظرية سخيفة ومغرضة. ففي حين أشير إلى وضاح خنفر أكثر من 420 مرة في برقيات ويكيليكس الامريكية المسربة، والمتوفرة لدى الجزيرة منذ زمن، فإن 400 من هذه الإشارات جاءت في سياق سلبي أو بالغ السلبية. أما البرقية موضع الجدل، والتي تعود إلى 2005 وتسجل استعداد خنفر للاستجابة لاعتراض أمريكي على إعلان محدد (برومو، كما يسميه أهل المهنة)، فلا تختلف عن عشرات التقارير الامريكية الأخرى حول مقابلات متعددة رفض فيها مدير عام الجزيرة السابق الملاحظات الامريكية.
باعتبار موقعه، قابل خنفر العديد من المسؤولين العرب والأجانب، من الهند وأفغانستان وإيران إلى البرازيل والولايات المتحدة، بعضهم للتحية والتعارف وبعضهم للاعتراض والاحتجاج. في حالات، لم يكن هناك مفر من الاستجابة، نظراً لوجاهة الاعتراض ووضوح الخطأ، وفي حالات أكثر لم يتردد في الدفاع الصلب عن القناة والشبكة ومقاربتها للمسألة محل الاعتراض. وربما تجدر الإشارة إلى أن وضاح خنفر، الذي استجاب لاعتراض أمريكي واحد في 2005، هو ذاته الذي غطى حرب العراق وانطلاق المقاومة العراقية، بما في ذلك معركتا الفلوجة الأولى والثانية، من موقعه رئيساً لمكتب الجزيرة في بغداد، ثم مديراً عاماً للجزيرة؛ وهو ذاته الذي قاد تغطية الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006 (التغطية التي صفقت لها الصحيفة اللبنانية مصدر الترويج لنظرية ويكيليكس)؛ وهو ذاته الذي قاد تغطية الجزيرة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ وهو ذاته الذي قاد تغطية الجزيرة للأوراق الفلسطينية (التي تعتبر أكثر وقعاً في قيمتها على السياسة الامريكية في الشرق الأوسط من كل ما سربته ويكيليكس حول المنطقة)؛ وهو ذاته الذي قاد تغطية الجزيرة للثورات العربية، من تونس ومصر، إلى ليبيا واليمن، وصولاً إلى سورية. صاحب مثل سجل كهذا ما كانت، ولا هي، تخيفه ضغوط امريكية ولا غير امريكية.
ولا تقل نظرية تدهور العلاقة بين مدير عام الجزيرة السابق ومجلس إدارتها سخفاً. كان الشيخ حمد بن تامر، رئيس مجلس إدارة الجزيرة، هو من رشح وضاح خنفر لإدارة القناة؛ وقد عمل الاثنان معا، وعن قرب، وبدرجة عالية من التفاهم والانسجام، طوال السنوات الثماني السابقة. أسس حمد بن تامر، الذي قضى كل حياته العملية في حقل الإعلام، والذي يعتبر الجندي المجهول الآخر خلف النجاح الهائل والإنجازات الكبرى التي حققتها الجزيرة، علاقة انسجام وتكامل نادرة بين مجلس إدارة الشبكة ومديرها التنفيذي وكبار العاملين فيها، علاقة ربما لم تعرفها أية مؤسسة إعلامية عالمية أخرى؛ ولم يكن أقل إيماناً برسالة الجزيرة ودورها، إن لم يزد، من مديرها العام والعاملين في غرف أخبارها ومكاتبها حول العالم.
كان لابد لوضاح خنفر أن يذهب لأسباب أكبر بكثير من النظريات التي لا تستند إلا لشائعات مغرضة وذات طابع انتقامي صغير.
خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين كانت الأوضاع العربية تصل إلى هوة لم تصلها منذ تبلور العالم العربي في صورته الحالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولد النظام العربي من رماد الانهيار العثماني، قسراً وبقوة سلاح الإمبرياليات الغربي. لم يستشر العرب في حدودهم، في أنظمة حكمهم، في علاقاتهم بالعالم وتحالفاتهم. وطوال ما يقارب القرن، لم تستمر الأوضاع العربية في التدهور، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وحسب، بل وحوصرت كل محاولة للنهوض حتى داخل الدولة العربية الواحدة. في هذا المجال العربي الفسيح، حيث تلتقي خطوط الجيوبوليتك العالمية الكبرى، حيث ولدت الدولة العبرية، وحيث وجدت أكثر مصادر الطاقة وفرة، وحيث ترسبت مواريث تاريخية ثقافية عميقة الجذور، لم يكن مسموحاً بالوجود والصعود إلا للنخب من صنف معين ومقبول، ولم يكن مسموحاً بالانتشار إلا لقوى الخراب والتخلف. وليس ثمة شك في أن انطلاق الجزيرة في النصف الثاني من التسعينات كان واحداً من أبرز التطورات الإعلامية ـ السياسية في العالم العربي، في وقت أصبح للإعلام ووسائل الاتصال دور بالغ الحيوية في كسر السقف الذي أقامته الأنظمة الحاكمة على حرية تبادل المعلومات والآراء، وعلى شعور العرب الجمعي بجدوى، أو لا جدوى، العمل العام وإسماع صوت الناس للعالم.
جاء وضاح خنفر إلى الجزيرة وهي محطة إخبارية مؤثرة ومستقرة إلى حد كبير. ما قام به، لم يكن فقط على صعيد تطويرها المؤسسي، أو توسيع نطاق عملها وفرضها كمؤسسة إعلامية عالمية، ولكن أيضاً، وفي صورة خاصة، على صعيد وجهتها. طوال ثماني سنوات، رأى وضاح خنفر أن المعسكر الذي لابد أن تنحاز إليه الجزيرة هو معسكر قوى التغيير ورفض الانصياع للأمر الواقع. وقد صاحب إيمانه العميق بالناس إيمان لا يقل عمقاً بأن العالم العربي لابد أن يتغير، بل ان العالم العربي هو بالفعل في طريقه إلى التغيير، وان الجزيرة الشابة، هي جزء لا يتجزأ من حراك عربي هو في طريقه إلى التجلي. ولم يكن صدفة أن تتمحور منتديات الجزيرة السنوية حول فكرة التغيير، وأن ترعى الجزيرة مؤتمراً للشباب العرب ووسائل الاتصال الحديثة، قبل أيام فقط من اندلاع رياح الثورة العربية. بمعنى من المعاني، وبعد أن قاد الجزيرة للشهادة على مساء القاهرة يوم 11 شباط/فبراير الماضي، والشهادة على ردود الفعل العربية الهائلة على الحدث المصري التحولي، أنجز وضاح خنفر والجزيرة المهمة الرئيسة التي كان عليهما إنجازها في هذه الحقبة الحرجة من تاريخ العرب، بعد أن أوصلت إهانة القرن العشرين البالغة العرب إلى الهاوية التي وصلوا إليها.
غادر وضاح موقعه لأن حقبة جديدة ومختلفة، بدأت في تاريخ العرب والعالم، سيكون له فيها وللجزيرة دور مختلف؛ ولكن ليس لهما معاً.
' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث