يقول التاريخ عن سجــن الباستــيل الشهـير (La Bastille) في العاصمة الفرنسية أنه قبل أن يحوله النظام الإقطاعي في فرنسا إلى سجن كان في الأساس قلعة للدفاع عن باريس لكن تحول إلى رمز للطغيان ومكان تنتهك فيه كرامة الإنسان بشتى مظاهر التعذيب ووسائله التي استهدفت المعارضين والمفكرين وكل من تُشتمّ منه خطورة على النظام السائد.
قلعة التعذيب كانت أول هدف للثوار يوم 14 جويلية 1789 وكان سقوطه إعلانا لانتصار ثورة في أولى مراحلها وكان مصير(القلعة السجن) التدمير حتى لا يبقى له أثر إلا في الذاكرة..
ويقول تاريخ الثورة في تونس أن يوم 14 جانفي 2011 احتشدت الجماهير وسط العاصمة وأمام مقر وزارة الداخلية مطالبة بإسقاط النظام بل عجّلت بإسقاطه حتى لا يستردّ أنفاسه..فيما ظلّت وزارة السيادة بما تحويه دهاليزها من زنزانات «شامخة» محتفظة بسر الدهاليز وأسرارها.
وجاء إغلاق الزنزانات أو الإعلان عن ذلك أولا ليطوي صفحة دامية في تاريخ حقوق الإنسان بتونس وثانيا ليفتح صفحة جديدة لهذه الحقوق التي تبعثرت وانتُهكت..وحتى لا يتجدّد فكر الدهاليز ويفرض سطوته مرة أخرى على كرامة الشعب.
الزنزانة الأكبر
يخطئ من يدعي أن الزنزانات كانت في مقر وزارة الداخلية فقط..الزنزانة إضافة إلى حقيقة وجودها وماهيتها تحمل في طياتها كل معاني الخنق والقتل..المصادرة والمحاسبة..هي المكان الذي يتم فيه تقييم الإنسان ليكون صالحا في نظام ما أو تسحب منه إرادة الحياة والتفكير والفعل وكل معالم ومكونات الذات في مفهومها الضيّق ومعالم ومكوّنات الشّخصية في تعريفها العام.
الزنزانة لها دلالة أشمل وأكبر تَفيض بها مجموعة الأحرف المكوّنة لها..نحن كنّا في زنزانة كبيرة ومازلنا لم نخرج منها..نحن نحاول الخروج أو النجاة بأنفسنا منها، إنّها أكبر من أن يضمّها مقر وزارة أو سجن أو غرفة إيقاف..تلك الزنزانة الأكبر يصادر فيها الفكر الحرّ والنيّر..يُكبت فيها الفكر المُخالف والمُعارض..يُحتجز فيها الفكر الحداثي بكل ما تحمله الصفة من دلالات وما تحيله على تطوّرات الفكر الإنساني عبر التاريخ.
الزنزانة الأكبر هي تربة خصبة ترسّبت على مرّ العقود لإنماء القحط الفكري وتجفيف منابع الاجتهاد في شتىّ مفاهيمه وتزييف للعقل بوقف إعماله وحتى استعماله والتحايل عليه.
نريد أن تُغلق زنزانة وتُفتح أخرى..وهنا لن نكون أسرى الأفكار المسبقة والمفاهيم الجاهزة..نعم نريد فتح زنزانة العقل..كم هو مؤلم ما تفعله زنزانة ما في مجريات التاريخ ومصائر الشعوب لكن كم هو جميل أن نكون أسرى بإرادتنا للعقل..لم لا عبيدا له وهي عبودية لا تلغي بالتأكيد جوانب أخرى..لا تلغي العقيدة بقدر ما تشكّل ضمانة لها..ولا المشاعر الإنسانية بقدر ما ترسّخها وتحفظها من الذوبان في «متطلّبات» التحوّلات في العالم..المشاعر الإنسانية ليست سوى إنسانية الإنسان..لأن انعدام العقل أو تغييبه عند الإنسان يجرّده من أحد أبرز مقوّمات إنسانيّته.
إنسانية بلا عقل هي عبارة عن قطيع من الأغنام تساق بمشيئة من يتحكّم في مصائرها..تساق إلى حيث يُفرض عليها الجهل والاستبداد والخنوع وعمى البصائر.
الزنزانة الكبرى تسوسها أيضا الهيمنة في تجلّيات عديدة سواء كانت إيديولوجية أو حتى مفهوما بسيطا كهيمنة القوي على الضعيف التي تكاد تصبح قاعدة اجتماعية بفعل الرّواسب وهيمنة المال وسوء استعماله في المكان والهدف غير المناسبين أو هيمنة طبقة أو طائفة وكل هيمنة في نهاية المطاف تُسحق لتبقى.وتبقى ليستمرّ سُحقها للآخر.
حاكم مستبد في لا وعي كل منا
وإذا سلّمنا بوجود زنزانة كبيرة، فلا بدّ من التسليم بوجود الجلاّد وهو ليس في سياق دوره الكلاسيكي فحسب الذي يمارس شتى أنواع التعذيب من الضرب واقتلاع الأظافر وغيرها من الممارسات التي لا تليق بالإنسان الفاعل (إن قُبلت الإنسانية بانتسابه لها) وبالإنسان المفعول به.
الجلاّد هو أيضا الرقيب بلا هدف ولا غاية مشروعين والحسيب بلا شرعية، وهو أيضا الحسيب بلا رقيب والرّقيب بلا حسيب..والغاية من كل هذا هوالقتل بشتى معانيه..وتحديدا قتل العقل وإعدامه ويريد أسياده بث العدمية التي تقول إنّ العالم كلَّه بما في ذلك وجود الإنسان، عديم القيمة وخال من أيّ مضمون أو معنى حقيقي.. عدميّة يستنزف مفهومها ليسحَق بعضُنا الآخرين.
في لاوعي كل منّا حاكم مستبدّ ومنفرد بالرأي في داخله نزعات ورغبات قد يكون مجبولا على ذلك أو يتصرّف تحت وطأة الموروث الدافعة إلى الاستبداد وإلغاء الآخر وشطبه ومحوه من المحيط أي من وجود ما ..
وفي داخل كل منّا نزوع إلى الانفراد بالرأي والانتقام والتشفّي..وعبارة أخرى في داخل كل منّا ديكتاتور صغير يمارس سلطانه على العائلة والمحيط الذي يعيش فيه..في داخل كل منّا ديكتاتور صغير سرعان ما يكبر مع كل هامش من السلطة يُتاح لنا..ومن هنا تبدأ مسيرة الديكتاتوريين لينفذوا مشاريعهم عبر الجلاّدين وفي زنزانات تضيق بها جدرانها لتتوسّع دائرة الفعل خارجها.
رمز أم فعل فكري؟
فهل سيؤخذ إغلاق زنزانات وزارة الداخلية كجانب رمزي أو كجوهر وفعل فكري يؤشّر لسلوك حضاري ظل مفقودا لعقود طويلة؟
كلّنا أمل في أن لا تُستنسخ التجربة المريرة ولكن نخشى أن تُفتح زنزانات أخرى تتجاوز الوزارة وتكون في صلب المجتمع وتصبح واقعا في حياتنا اليومية بفعل التطرف والتشدّد وبروز نزعة الإنفراد بالرأي وامتلاك الحقيقة.
نخشى أنه إذا بقينا في زنزانة كبرى أن تصبح مصادرة الرأي في كتب أو صحف أو أفلام طريقا نحو ديكتاتورية ربّما هي بصدد نسج خيوطها وتحصين مواقعها وتحديد أعدائها والشروع في إخماد أصواتهم ليأخذ البعض «مشعل» دور الجلاّد ويمارسوا قتل العقل بل الإمعان في محاولة قتله حتى لا يستيقظ إلى الأبد كما يعتقد هؤلاء الذين يبشّرون بالظلام في وضح النهار.
ما سجل أمس من ردود فعل حول الشريط الكرتوني الذي بثته قناة «نسمة» التلفزية وهو شريط لم يَرُق للبعض ونتفهم الموقف من منطلق وجوب عدم المس بالمقدسات لكن وسيلة التعبير عن الموقف باللجوء الى العنف مثلما حصل في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة إضافة إلى بعض المظاهر في الشارع التونسي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن البعض يريد إدخال الشعب في زنزانته ليسحقه ويسحق كرامته وكيانه كما فعل السابقون..لكن هل أفلح هؤلاء؟
لم يفلحوا لأنهم ببساطة فشلوا في سرقة العقل وفي إخضاعه وقتله..والعقل الذي لا يقبل الموت كنهاية..لا يقبل الوصاية كبداية..
..المهمّ ..لا نريد أن تُفتح زنزانات أخرى تحت أيّ عنوان كان...!!!