عبد الكريم غلاب: ملامح الأدب العربي الحديث بالمغرب
ملامح الأدب العربي الحديث بالمغرب
عبد الكريم غلاب
لست أريد في هذا الحديث أن أتابع تطور الأدب في المغرب خلال المرحلة التي مرت منذ ابتداء هذا القرن. فالقراء ولا شك تتبعوا نماذج من هذا الأدب وعرفوا بعض مظاهره وقرأوا صورا من شعره ونثره، قصصه وبحوثه، وعرفوا أسماء لمعت من كتابه وشعرائه، وربما عرفوا أسماء ظهرت وهي في طريق اللمعان.
وإنما أريد أن أقف وقفات تتجلى فيها بعض مظاهر هذا الأدب لنرسم له صورة نقدية لا تاريخية نفتح فيها مجالا للمناقشة. ولذلك فكل ما سأقوله لا أبغي من ورائه أن أصدر أحكاما فاصلة. فالنقد عندي أساسه الحرية، والحرية لا تقبل التحكم ولا تستسيغ الأحكام المطلقة. والحكم المطلق إذا صح أن يتجلى في شيء ما، فلا يجوز أن يتجلى في الأعمال الأدبية. وإلا كان خروجا عن شرك الأدب الذي هو الحرية، والحرية المطلقة التي لا يقدح فيها التزام ولا يحد منها اعتناق مذهب وترسم هدف.
إذا كانت نهضة الأدب العربي بالمغرب جاءت متأخرة عن نهضته في بلاد المشرق عامة، فإنما ذلك للظروف السياسية والحضارية التي عاشها المغرب في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن. فقد عاشت بلادنا حياة عزلة فرضتها ظروف سياسية عالمية ومحلية كان المغرب فيها يعتز بحريته وبإقليمه، وكان مشفقا أشد الإشفاق على هذه الحرية من أن ينال منها توسع الإمبراطوريات الشرقية أو الغربية. وكان في الاعتداءات الانجليزية والبرتغالية والاسبانية على شواطئه، وفي توسع النفوذ التركي حتى حدوده الشرقية في القرون المتأخرة ما يذكي فيه الحفاظ على كيانه والعمل على صيانة حريته ولو على حساب التحرر من العزلة والانكماش.
ولهذا لم تتصل نهضته الأدبية اتصالا وثيقا بنهضة الأدب في مصر أو الشام، ولم تساير التطور الذي بدأ في منتصف القرن الماضي في البلاد العربية بالمشرق.
وكان للانعزال أثر آخر تجلى في عدم الاستفادة من التطور الحضاري، ومن الطباعة بخاصة، فإن المغرب وإن عرف الطباعة في شكلها البدائي الحجري – الذي كان لها الفضل في المحافظة على تراث مهم علمي وثقافي بالمغرب- فإنها لم تكن بمستطيعة أن تشجع النشر وأن تسابق الإنتاج لتجعل منه سوقا فكرية رائجة في المغرب كما فعلت في المشرق منذ أن أدخلها نابوليون إلى مصر.
ولعلني لست في حاجة أن أقول إن التخلف الثقافي وتخلف أساليب التعليم كان له الأثر الأول في تأخر النهضة الأدبية في بلادنا، فأساليب التعليم، والمثل الأعلى للمتعلمين، ومفهوم العلم كما كان على عهد المتعلمين في القرن الماضي وأوائل هذا القرن، كان يجعل من الأدب ترفا لا يصح أن يتعاطاه المجدون في ثقافتهم والمتطلعون إلى أن يكونوا "علماء" يحمون الدين ويضطلعون بأمر الشريعة. ولذلك كان الأديب الذي تتفتح مواهبه يجد في البيئة العلمية والثقافية ما يدفع به إلى أن يقاوم هذه المواهب أو يستغلها في خفية حتى لا يتهم في علمه أو يرجع به أدبه عن مقامه في العلم والمجتمع.
تلك عوامل أخرت نهضة الأدب، ولكنه حينما بدا ينهض وجد كثيرا من الوسائل التي جعلت تطوره سريعا، وجعلت تعثره أقل خسارة أو هو تعثر لم يعد به إلى الوراء خطوات.
من ذلك أن اللغة العربية في المغرب ظلت سليمة على الأقل في جوهرها، فلم تدخلها عجمة اللفظ، ولم تحط من قيمتها ركاكة في الأسلوب، وإنما ظلت – على تخلف في التعليم وانصراف عن الأدب – سليمة نقية كأحسن ما يكون النقاء في ظروفها وبيئتها وحياتها وما يتيحه التعليم من غناء أو نصاعة.
ومن ذلك أن الأدب حينما بدأ ينهض في المغرب كانت هناك سوابق من نهضته في المشرق. يترسمها ويسير على منوالها، وكانت هناك المطبعة العربية في المشرف تغذي النهضة الثقافية في المغرب بنماذج من الأدب العربي القديم: دواوين الشعراء ومحاضرات الأدباء ودراسات وتاريخ الأدب العربي ونماذج من شعر الفحول ونثر الممتازين ممن كشفتهم المطبعة لفكر الناشئين والأدباء والمتأدبين.
وكذلك لم ينصرف المتعاطون للأدب إلى البحث والكشف، ولكنهم انصرفوا فقط إلى القراءة الميسرة السهلة في كتب ومجلات مطبوعة، ولكنهم انصرفوا فقط إلى القراءة الميسرة السهلة في كتب ومجلات مطبوعة طبعا أنيقا نظيفا مشكولا في كثير من الأحيان.
وهكذا بدأ الأدب المغربي يأخذ طريقه نحو النور، في ظروف ميسرة أو أقل صعوبة على الأقل مما واجهت الأدباء في المشرق ومما صرفوا جهودا وأعمارا لتذليلها والانتصار على عقباتها.
والحق أن الأدباء في المغرب استفادوا من الظروف المشجعة هذه فبرز الأدب المغري في العقد الثاني والثالث من هذا القرن في حالة تدعو إلى التفاؤل: شعر مستقيم اللغة والأسلوب قوي النفس، ولكنه تقليدي في المضمون يتطلع إلى مثله الأعلى من خلال شعر المتنبي أو أبي نواس أو من خلال شعر البارودي وشوقي. ونثر متحرر من قيود السجع والمحسنات، ولكنه محدود الأفق سجين الثقافة المحدودة والمجال الضيق.
وبدأ الأدب طريقه في مسالك وعرة لم تقف في طريق الأدب في المشرق.
وأولى العقبات كانت الحرية، الحرية التي افتقدها الفكر في المغرب نتيجة للحرية التي افتقدها المغرب في الميدان السياسي منذ بداية القرن الحالي. ولعل المغرب يضرب أروع مثل في اتصال الحرية بالفكر، وفي قيمة الحرية كمتنفس للأدب ومجال لازدهاره ويقظته. فإن الظروف السياسية التي عاشها المغرب طوال نصف قرن كانت بمثابة خناقة تخنق كل متنفسات الفكر والأدب.
- لم يتطور التعليم التطور الذي يتيح للأدب أن يزدهر، بل إن اتجاهه كان في غير صالح الثقافة العربية، ومن ثم كان التعليم الفرنسي وتوجيه التعليم على العموم يخنق كل المواهب الأدبية التي لا تملك وسائل التعبير بلغتها القومية، ولا تتجاوب هذه المواهب مع اللغة التي أتقنها أو تعرف عليها الشباب الذي كان في إمكانه أن يتعلم. ثم إن توجيه التعليم كان يهدف إلى أن يجعل من التعليم وسيلة لإخراج مساعدين لا تكوين مثقفين. وما عاش أدب في وسط من رفعت عنهم الأمية أو أصبحوا أرباع مثقفين ولا أقول إنصافهم. أما التعليم العربي فقد ظل جامدا جمود أساليبه والإرادة التي توجهه، ولو أنه فتح آفاق بعض الموهوبين ممن حملوا لواء الأدب – ولا أقول رفعوه- في العقدين الأخيرين من هذا القرن.
- ولم تطور أساليب النشر، وجدت الطباعة الحديثة –على قلة في الوسائل وضعف في التجهيز- ولكن لم توجد الصحيفة والمجلة، وهما وسيلة العصر الأولى للنهوض بالفكر والأدب، وكانت بعد أن وجدت مهددة في حياتها بالإرادة تارة، وبالفقر والإملاق تارة أخرى. وما وجدت إلا لتختفي، وما بدأت براعم الأقلام تتنفس من خلال صفحاتها حتى ضاقت أنشوطة الخناقة لتخمد هذه الأنفاس وهي بعد ضعيفة هزيلة طرية.
والكتاب والديوان نتاج يأتي في بلد نجحت فيه الصحيفة والمجلة، فتدربت الأقلام وخرج الفكر من عزلته، وتجرأ الكاتب والشاعر على أن يحمل إلى قرائه مجهودا عبأ فيه فكره شهورا أو أعواما، بعد أن تأخذ بيده الدربة فالمراس أن يحمل إليهم عن طريق المجلة والصحيفة مجهود ساعات أو أيام. ومحنة الصحافة ساهمت في استمرار هذا الستار ضنينة بإنتاج المغاربة. وما عرف سوق الأدب على عهد الاستعمار في المغرب إلا كتبا قليلة أغلبها بعيدة عن ميدان الأدب وإن اتصلت بتاريخ أو علم أو فقه أو دين.
وكان الكفاح ضد النظام الاستعماري من أسباب هذا النضوب الفكري والثقافي ومن أسباب النضوب الكتابي على الأخص، فبالإضافة إلى أنه عبأ قوى مجموعة من المثقفين ذوي الميول الأدبية للعمل في سبيل الاستقلال، وضع الأدباء أمام امتحان ضمير جعل الانصراف إلى الأدب، في أمة في حاجة إلى الحرية، فيه نوع من سوء تقدير المسؤولية. وإذا كان الأدباء لم يعبئوا كل مواهبهم للكفاح عن طريق القلم، فلأنهم لم يتجهوا أولا، ولأن مصادرة الحرية، حرية القول كانت تمتد إلى كل أثر كتابي ينبض بالحياة أو بالدعوة إلى التحرر أو إلى وصف مباذل النظام الذي كان يعيش عليه المغرب. ومع ذلك فإن إنتاج المغرب لا يخلو من أدب الحرية شعره ونثره، ولو أن كثيرا منه لم ير النور إلا في دفاتر الأدباء وكراساتهم، وما يزال بعضه أو أغلبه خلف الحجاب رغم الحرية التي أدركت فن القول في بلادنا.
حينما جاء الاستقلال تحرر المغرب من كثير من هذه العراقيل: تحررت الصحيفة والمجلة والكتاب، وما يزال التعليم وهو الأساس يطرق باب الحرية في استحياء، وما تزال العربية غريبة في المغرب الذي ندعوه "بالعربي". وما تزال الأجيال التي تحمل قلما عربيا لم تتكون بعد.
ثم إن الاستقلال كان مسؤولية وعبأ: امتصت الإدارات جماهير المثقفين. وفتنت المسؤولية الكثير ممن يستطيعون الإنتاج، ومن تتيح لهم ثقافتهم العربية أن ينتجوا أدبا يقرأ، وأصبح الجيل الكاتب بين منصرف إلى مسؤوليات جديدة بعيدة عن أي تشعره بالحاجة إلى الكتابة أو منصرف إلى الكتابة كمهنة. والمهنة قلما تتيح للكاتب أن يخلو إلى نفسه لينتج أدبا، ومن ثم ضعف الجانب الأدبي فيما تنتج الصحافة، ولم تستطع المجلات أن تغامر في الميدان القفر إلا مجلات خاصة ما تزال تحبو متأرجحة بين المستويات المختلفة فيما تقدمه لقرائها بين الفينة والأخرى.
أرأيتم إذن كيف أن سوء الحظ تعقب الأدب المغربي في القرن العشرين، فكان يتعثر ويحاول أن ينهض ثم لا يجد غير جناحين مهيضين قص قواد مهما تخلف الثقافة وأطاحت بخوافيهما تيارات رجعية نتجت كلها عن نظام متخلف عاش فيه المغرب زهاء نصف قرن وما يزال يعاني من آثاره ومخلفاته.
ولكنا مع ذلك أمام إنتاج شعري ونثري وأحيانا أمام إنتاج لا هو بالشعر ولا بالنثر. فما هي السبل التي سلك هذا الإنتاج؟ وما هي القيمة التي يمكن أن نقيمه بها كإنتاج مغربي أنتج في ظروف عرفنا لمحات منها؟
ساهم الكتاب المغاربة في مختلف فنون القول، فكانت الدراسات والبحوث، وكانت المقالة الأدبية والسياسية، وكانت القصة والرواية، وكانت القصيدة.
أما عن الدراسات والبحوث، فقد ازدهرت ازدهارا لا بأس بنوعيته وقيمته في مجال البحث العلمي وأسلوبه، فرأينا دراسات في تاريخ المغرب وتاريخ رجاله من ملوك وسياسيين وأدباء وشعراء، ورأينا دراسات مدن وأقاليم تتصل بتاريخ العلم والأدب والسياسية فيها، ونستطيع أن نقول إن المكتبة المغربية على فقرها كانت غنية –شبه غنى- بالدراسات الأدبية والتاريخية الطويلة منها التي استغرقت كتبا أو أسفارا والقصيرة التي لم تعد بحثا أو بحثين نشرا في مجلة أو صحيفة أو على شكل كراسات متداولة.
وهذه الدراسات لا تخلو من طابع علمي قوامه البحث والاستقصاء والمقارنة والاستنتاج. ولكنها كذلك لا يخلو بعضها من طابع الجمع وضم النظير للنظير حتى أنك تجد نفسك أمام دائرة معارف تجمع بين التاريخ –أنواع التاريخ- والأدب- أنواع الأدب – والقضاء والفقه والتصوف والحكمة.
ثم إن هذه الدراسات أو بعضها تأخذ طابع الإقليمية في بعض الأحيان أو تأخذ طابع الفردية في أحيان أخرى، فتجدها تختص بآسفي أو تطوان أو سوس. أو تجدها تختص بابن حبوس أو الجراوي أو الفشتالي. وإذا كنا لا نستهين بالجهود التي بذلت في هذه الأبحاث في مثل الظروف التي عاشها المغرب وعاشها أصحاب هذه البحوث. ولا نستهين بما قدمت للبحث التاريخي والأدبي من فضل، فإننا كما نرجو – ونحن دائما طلاب كمال- أن تكون أبحاثا هادفة تدرس التاريخ في إطاره المغربي العام على الأقل. وتدرس الأدب في إطاره العام كذلك. وتنحو الاختصاص فتبرأ من الخلط بين القضاء والأدب أو بين التصوف والسياسة.
ولو كتبت هذه الأبحاث في منتصف القرن الماضي لقلنا إن أسلوب البحث العلمي كان متأخرا، وإن المطبعة لم تنر بعد مكاتب الباحثين، اما أنها كتبت في القرن العشرين وفي منتصفه فإن العذر لكتابها في اقتطاع أجزاء من التاريخ العام أو التاريخ الأدبي وفي الخلط بين القطاعات المختلفة غير مقبول فيما أرى.
وكانت المقالة الأدبية والاجتماعية والسياسية أكثر فنون الأدب نجاحا وغزارة في المغرب. تطور أسلوبها تطورا ملحوظا حتى أنك لتقرأ لكتاب لا يقل أسلوبهم رونقا وجمالا عن أجمل الأساليب العربية الحديثة. وتطور هيكلها تطورا ملحوظا كذلك، فالمقالة من أصعب الفنون الأدبية، ولكنها في المغرب لم تفشل، بل إنك لتشعر بأن الكتاب الذين مارسوا هذا الفن يملكون زمامه ويوفونه حقه في تركيز الفكرة والتقديم لها وصياغتها والاستنتاج منها.
وأغلب الظن إن الفرص التي أتيحت للكتاب في الفترات التي أينعت فيها الصحافة وخاصة بعد الاستقلال، جعلت هذا الفن من فنون القول يستفيد وينمو بدافع الحاجة إلى الكتابة التي تخلقها الصحافة الموقوتة، المتطلعة دائما، المتجددة كل يوم. ولم تكن السرعة ولا إلحاح المطبعة إلا لتزيد في إتقان هذا الفن.
ويمكن أن أقول إن المقالة سواء منها الأدبية أو الاجتماعية أو السياسية احتفظت في المغرب بسمو الأسلوب وإتقانه وسلامة اللغة وتطورها أكثر مما احتفظت بها بعض أقطار الشرق العربي.
ولابد أن نشير إلى أن حرية القول التي تمتع بها المغرب بعد الاستقلال كان لها الأثر في انطلاق الكتاب –على قلتهم- من عقال القيود المفروضة التي تعرقل الكاتب عن طريق عرقلة الفكر ومنعه أو توجيهه أو فرض نوع خاص من التفكير عليه. كل تلك العراقيل يكون لها أثرها في الكاتب شاعرا بذلك أو غير شاعر، ولكن تحرر كاتب المقالة من هذه القيود فتح باب الانطلاق في وجهه ودفع به إلى الانتصار على كل مركب قد يعوقه عن النجاح في بداية المرحلة التي اجتازها.
فلا غرابة إذن إذا رأينا أن فن المقالة كان من أنجح الفنون الأدبية في المغرب على صعوبة هذا الفن وإجهاده وتطلبه التفرغ والإجادة والسرعة، ولكنه رغم نجاحه يظل في الإطار الأدبي الضيق الذي يعيش فيه المغرب للأسباب التي أشرنا إليها سابقا.
ثم إن المقالة الأدبية بخاصة تشهد تخلفا لا يتفق مع المستوى الذي بلغته قبيل الاستقلال في الفترة المتراوحة بين سنتي 1946 و1952، ويرجع هذا التخلف لقلة اهتمام الصحافة اليومية والأسبوعية بالميدان الأدبي ولأحجام كثير من الكتاب الأدباء عن الإسهام بإنتاجهم الأدبي لأن الإدارة ابتلعت الكثير منهم ولأن بعضهم لم يعد يؤمن بجدوى الأدب في عصر التقدم المادي فكانوا من المنهزمين في معركة لم تبلغ بعد أشدها في المغرب. ولهذا أصبحت المقالة السياسية متفوقة تفوقا ملحوظا في السنين التي تلت الاستقلال.
ونعود إلى فن آخر من فنون القول التي عرفها الأدب المغربي هو فن القصة والرواية. لقد عرف المغرب محاولات كانت ناجحة كمحاولات. بدأت تشق طريقها وخاصة في القصة الصغيرة. وكانت محاولات جريئة طرقت باب المجتمع والكفاح الوطني والدفاع عن الحرية. ولم تتشبث بأهداب الموضوعات الرخيصة: موضوعات الحب المائع أو التملق إلى الجنس وتحليل الغريزة كما هو الشأن في المحاولات الناشئة التي تظهر في الآداب المختلفة، ولا هي لجأت إلى محاولة الإثارة والاستبداد بفضول القارئ. فذلك مجال سهل لم يحاول الذين تعاطوا القصة أن يلجأوا إليه وذلك يدل على أن مثلا رفيعة للقصة كانت في أذهانهم وهم يحاولون.
والحق إننا بعد الاستقلال لم نجد من هذه المحاولات الكثير. وأغلب الظن أن ذلك يرجع إلى أن فن القصة في حاجة إلى تفرغ وفي حاجة إلى إجهاد لم تساعد عليه مسؤوليات الاستقلال التي امتصت كثيرا من المواهب الخصبة. وفي مقدمة من امتصت الذين حاولوا في فن القصة ونجحوا في محاولاتهم.
أما الرواية، وأما المسرحية فإذا استثنينا ما تذيعه الإذاعة من مقتبسات "ممغربة" في بعض الأحيان فإن الأدب الحديث يبين عن فقر مدقع لا نكاد نجد له نظيرا في بلاد أخرى.
وإذا أخرنا الحديث عن الشعر فالأهمية النسبية التي يحتلها في الأدب العربي الحديث بالمغرب.
والشعر ولو أنه – فيما يعتقد – أرقى فنون الأدب وأصعبها وأكثرها أثرا في الحياة الأدبية، إلا أنه في المغرب كما هو في سائر أنحاء الدنيا على ما أظن كان البداية التي لابد منها لكل نهضة أدبية، وإذا كان الشعر لم ينقطع في المغرب على عهد التخلف الثقافي والأدبي، فإنه كان في مقدمة فنون الأدب التي بدأت تزدهر في المغرب حينما بدا نهضته الحديثة، فوجدنا شعرا تقليديا ذاتيا يعبر عن لواعج الشوق والحب، ويصف الحبيب الهاجر وينزع إلى الفخر أو الهجو أو مدح الرسول لمناسبة المولد أو مدح الملك بمناسبة تولية أو سفر أو عيد.
والحق أن هذا الشعر ولو أنه تقليدي عادي يسير مع مستوى الشعر العربي في زمانه مع حفظ النسبة بين المغرب والبلاد العربية التي أخذت بأسباب النهضة. والحق كذلك أن مستواه الأدائي في التعبير والقافية والوزن، كان مستوى لا بأس به.
وتطور الشعر على يد شباب الجيل الذي قرأ لحافظ وشوقي واسماعيل صبري، ودخلته الروح الوطنية والقومية، وظلال مجتمعية أصبحت ترفرف على جنباته، وأصبح الطابع التقليدي في الشعر ممزوجا بالطابع العصري. ولم يضق عطنه بهذا المزج، وتطور أيضا أسلوبه بتطور ثقافة منتجيه، وكان طبيعيا أن يصبح مظهرا لهذه الثقافة المحدودة وللمثل الساذجة في الشعر رغم أن موضوعاته كما قلنا بدأت تطرق باب الوطنية والقومية والاجتماعيات.
وخلف من بعدهم جيل آخر اتسعت عنده آفاق الشعر الغنائي الوجداني والشعر الاجتماعي والوصفي و الشعر الوطني الذي كان يجد مناسباته، بل يجد حمايته كذلك في عيد العرش الذي كان يعتبر ميدانا حرا للتعبير عن خوالج الأمة في الحرية والاستقلال والانعتاق الوطني والاجتماعي، وكانت لهذه المناسبة السنوية آثار في نتفتق قرائح كثير من شباب الجيلين الأخريين. وكانت لها آثار في تطور الشعر العربي الحديث بالمغرب أسلوبا ومضمونا. وكان تطورا طبيعيا لا طفرة فيه ولا انتكاس، ولكنه تطور على كل حال يجعل الشعر في مقدمة ركب الفنون الأدبية بالمغرب.
غير أن هذه النهضة التي بلغت أوجها في السنين التي مهدت للاستقلال قد خبا أوراها بعد الاستقلال.
هل ذلك لأن الحماس الوطني قد ضعف بعدما خيل للمتحمسين أنهم قد وصلوا؟ أم إن ذلك لأن مسؤوليات الاستقلال قد امتصت كثيرا من الشعراء؟ أم إن الأمر أعمق من ذلك وهو أن الشعراء قد أصبحوا يحسون أن عصر الشعر قد ذهب مع التيار المادي الذي يجتاح العالم والشعوب المتخلفة على الأخص؟ أم إن الشعراء قد خاب أملهم في القراء وفي الدولة التي لا ترعي أدبا ولا ثقافة فانصرفوا عن الشعر متحسرين أو غير آسفين؟ أعتقد أن كل ذلك له الأثر في هذا الانصراف الذي نرجو أن يكون له عودة فيما يستقبل من قريب الأيام.
ذلك عن فنون القول المختلفة التي طبعت الأدب العربي بالمغرب الحديث، والأدب في مختلف فنونه هذه لم يكن مطبوعا باتجاهات معينة أو باختصاصات محدودة. فالباحث الدارس –وأرجو المعذرة إن أدخلت هذا النوع من فنون القول الأدبية- يبحث في التاريخ وفي الأدب وفي تاريخ التشريع أو تاريخ التصوف دون أن يلزم اختصاصا معينا. ولعل المغرب بما فيه ومن فيه هو ميدان الاختصاص عند هذه الفئة من الدارسين
والشاعر لا تكاد تضعه في إطار خاص لنوع من الشعر. فشاعر الوطنية هو شاعر الحب والهيام، وشاعر المدح والرثاء هو شاعر الوصف والطبيعة. ومن ثم لا تكاد تميز هذا من ذاك إلا أن يكون التمييز بين الأساليب أو بين القدرات الفنية. وذلك ليس عيبا على كل حال ما دام الشعر تقليديا مثله الأعلى عند شوقي أو حافظ أو العقاد.
وقل مثل ذلك في فن المقالة أو الكتابة الأدبية على العموم فإن الكتاب يتوزعون بين المقالة الأدبية والسياسية والقصة والبحث ولا تكاد تجد لأحدهم اختصاصا يعرف به أو يوفر له كل مواهبه.
غير أن الظاهرة التي تطبع الأدب الحديث على العموم هي محاولة التخلص من الذاتية الضيقة والتعبير عن الأحاسيس الوطنية والقومية والشعبية. وهذه ظاهرة تتجلى في مختلف ما أنتجه الأدباء في الأجيال الحديثة وهي ليست استجابة لأحاسيس الجماهير أو تملقا لها، ولكنها استجابة ذاتية كذلك، فمعظم الذين ساهموا في الحركة الأدبية كانوا من الذين ساهموا عمليا وبنسب مختلفة في الحركة الوطنية. والذين انفصلوا عن الشعب وأحاسيسه ومشاعره وانفصلوا عن الوطن وخدمته والكفاح في سبيله، هؤلاء لم يعيشوا أدبيا رغم أن بعض مؤهلاتهم كانت تشعر باستعداد أدبي طيب. ولعل ذلك هو السر في أن بعض اللامنتمين الذين يعيشون على هامش حياة بلادهم لم يجدوا لهم مجالا في الميدان الأدبي، بل إن الانزواء كان يقضي عليهم، وما أحسبهم واجدينه فيما يستقبل من أيامهم.
وظاهرة أخرى نود أن نشير إليها هي أثر الثقافات الأجنبية والأدب الأجنبي على الأخص في الأدب العربي الحديث في المغرب.
إن معظم الذين أنتجوا أدبا حظهم من اللغات الأجنبية ضئيل، واتصالهم بالأدب الأجنبي لم يكن إلا عن طريق الأدب المترجم، والأدب المترجم إن نقل الفكرة أو الصورة لا يستطيع أن ينقل الروح أو طابع الأديب. ولهذا نجد آفاق الأدب المغربي محدودة ضيقة في الآفاق العربية أو ما ترجم إلى العربية، وتلك خسارة تمنى بها المواهب المتفتحة التي لا تجد مجالا رحبا لتفتحها وايناعها.
وذلك ناتج عن هذا الانفصال الثقافي الذي تعيشه بلادنا: مثقفون يتقنون الفرنسية أو الاسبانية ثم هم لا يستطيعون أن يقرأوا العربية ولا أن ينتجوا بها، ومثقفون يتقنون العربية وفي استطاعتهم أن ينتجوا بها، ولكن آفاقهم ضيقة لا تكاد مواهبهم ترنو إلى ما وراء الأفق الضيق.
من أجل هذا الانفصال تضيع الحركة الأدبية في مواهب أجيال من جماهير المثقفين الذين غرفوا من معين الثقافة الغربية الحديثة. ثم هم لا يستطيعون أن ينتجوا لإحساسهم –عن شعور أو لا شعور- بأنهم منفصلون عن بيئتهم ووسطهم لأنهم لا يتقنون التعبير بلغة بلادهم. واللغة جزء من كيان المثقف، ومهما حاول أن يتخذ له لغة أجنبية، فسيظل يشعر بأنه وطني يتقمص فكرا أجنبيا. ولعل هذا هو السر في أن المنتجين المغاربة بلغة أجنبية من بين الجماهير الذين لا يتقنون غير هذه اللغة الأجنبية قليلون.
وبمقدار الخسارة التي تمنى بها حركتنا الأدبية من انفصال هؤلاء عن ثقافة بلادهم ولغتها تمنى هذه الحركة بخسارة أخرى ناتجة عن أن معظم المنتجين للأدب لا يعرفون غير العربية فلا يستفيدون من ثقافة أجنبية أخرى ولا تظل مواهبهم على عالم آخر غير عالم العربية. وذلك سر ما يمكن أن نلاحظ في الإنتاج الأدبي العربي بالمغرب من بعض التخلف.
وأما الذين أتيح لهم أن يقرأوا في الأدب الفرنسي أو الاسباني أو الانجليزي من الأدباء المنتجين فقد أنتجوا أدبا تعتز به الحركة الأدبية في المغرب.
رأينا في مستهل هذا الحديث أن هناك عقبات قامت في طريق ازدهار الأدب منشأها الوضع السياسي الذي كان يعيش فيه المغرب قبل الاستقلال. ورأينا في غضون هذا الحديث كذلك أن الاستقلال امتصت كثيرا من المواهب فكان لذلك أثره في انصراف بعض الكتاب والشعراء عن مجال الأدب والإنتاج. فهل كتب على الإنتاج الأدبي في بلادنا أن يكون هو الخاسر في الوضعين المتناقضين معا؟ ومن المسؤول عن هذه الظاهرة، ظاهرة الركود الأدبي، أهم الأدباء أم المجتمع أم الدولة؟ أم هي ظروف خارجة عن إرادة هؤلاء جميعا هي التي جعلت تشابه الظاهرتين على اختلاف واضح بين عهدي الاستعمار والاستقلال؟
كثير من النقاد يقولون إن التطور السياسي والاجتماعي لا يكون له مفعول واضح في الإنتاج الأدبي إلا بعج فترة قد تطول تتضح فيها أهداف هذا التطور، وتعمق فيها مشاعر المنتجين كتاب وشعراء. ويأخذ الإنتاج طريقة الواضحة بعد ذلك حيث تختفي عوامل التردد والانتكاس وتزول بواعث الحيرة أو الإحجام.
ومعنى ذلك أن نهضة الأدب بعد الاستقلال في حاجة إلى وقت تدرك فيه نفسها وتتملى من الوضع الاستقلالي الجديد ويدرك فيه الأدباء مسؤولياتهم لينتجوا ولتزدهر النهضة بإنتاجهم.
إذا صحت الملاحظة فإن وقت التملي قد طال، وبوادر النهضة لم تزل بعد خابية واهنة. ويبقى السؤال موضوعا بعد ذلك: من المسؤول عن هذا الركود؟
وفي نظري إن المسؤولية يقتسمها الأدباء والمجتمع والدولة والوضع الثقافي والتعليمي الذي لم يتغير إلا قليلا عن ذي قبل.
ومسؤولية الأدباء واضحة في أنهم يتخلون عن الإنتاج وتصرفهم أعباء الحياة ومشاكلها عن أن يكون لهم نصيب فيما نرجو لهذه البلاد من نهضة أدبية. وإذا كان نبع الأدب ذات الأديب وفكره ففي الوقت الذي تتخلى هذه الذاتية وهذا الفكر عن العمل الأدبي تتحد المسؤولية ويتضح المسؤول.
والمجتمع، المجتمع الذي لم يشعر بعد بأهمية الأدب ورسالته في الحياة مسؤول كذلك عن خمود النهضة الأدبية، وما خبت المواهب إلا في مجتمع لا يقدر قيمة ما تنتج الموهبة من أدب أو فن.
والدولة في المجتمعات المتخلفة تتحمل أكبر مسؤولية، إن عملها لا يقتصر على التشجيع والمكفأة، ولكنه عمل أساسي في رواج سوق الأدب. وتبحث فصول ميزانية الدولة عندنا فلا تجد فصلا من ميزانية وزارة ما يخصص للثقافة العامة لنشر تراث أو لمكافأة إنتاج. وما نريد أن تتكفل الدولة بعمل الأدباء وإنتاجهم أو بأرزاقهم وتفرغهم، ولكن عليها في بداية النهضة أن تزيح عراقيل مادية في أغلبها عن طريق حركة ما تزال تخطو، أو أنها ما تزال تحبو.
وداء الأدواء بعد كل هذا هو التعليم الذي لم ينسجم بعد مع حياتنا الاستقلالية، ولم ينسجم مع ما نريده لبلادنا من مستقبل. وما دام التعليم في بلادنا فرنسيا في لغته وجوهره، وما دام هذا الانفصال بين واقع بلادنا وبين الثقافة التي تمنحها شبابنا، ما دام ذلك فلن نطمع في أن تخرج المدرسة رجالا يضطلعون بأعباء النهضة الأدبية.
وبعد: ففي كل هذه الظروف القاتمة تنبعث فكرة تكوين "اتحاد لكتاب المغرب العربي"، وهي فكرة لا يراد منها إلا أن تحمل المشعل لتقدم القافلة هادية مضيئة رائدة. وانبعاث هذه الفكرة في مثل هذه الظروف يدل على أن الأدباء بدأوا يجدون ذاتهم ويدركون مسؤولياتهم، وإن عوامل الحيرة والقلق والانتكاس قد بدأت تنجلي. فعسى أن يكون مثل هذا الاتحاد دليلا على أن فجرا جديدا بدأ يطل علينا من الآفاق، ونرجو أن يكون فجرا صادقا.[center]