دولة المخابرات المصرية لم تنس أنها اعتقلتني قبل 40 عاما: 24 ساعة في 'استراحة' أمن الدولة
ربعي المدهون
(إلى شبان انتفاضة 25 كانون الثاني / يناير: لا تعطوهم فرصة واحدة إنهم لا ينسون أبدا) قادتني وزوجتي إلى غرفة للتحقيق، في مطار 'بن غوريون' في اللد، شرطية أمن مؤخرتها ثقيلة. أبطأ ذلك خطونا خلفها. تضاعف وقت وصولنا إلى حيث طلبت منّا الانتظار.
جلسنا على مقعد عريض، لامس أحد طرفيه زاوية غرفة جانبية، بابها نصف مفتوح، يبعثر كلاما بالإنكليزية والعبرية تصعب الاستفادة منه (لا بد أنها غرفة تشليح المعلومات كما أطلق عليها) وتحرَّر طرفُه الآخر في فضاء قاعة فسيحة ذات سقف بدا معلقا في سماء رمادية بعيدة لا يبلغها النظر.
سألتني زوجتي: 'رح انطوِّل كتير؟'
'قدّامنا استجواب ثاني'. أجبت.
دخل القاعة المفتوحة رجل مغبرة ملامحه بمتاعب سفر طويل. مشى إلى نهاية القاعة زحفا على حافة كهولته. ألقى بجسده على المقعد المقابل لنا بطريقة لم تشكُ منها مؤخرته. رفع رأسه نحوي. تذكرتني ملامحه وعرّفتني عليه. إنه جاري في الطائرة، 'رجل الحدود المفتوحة والملفات المعلنة،' كما وصفته لنفسي. لم يرق لي ظهوره المفاجئ، وإن أسعدني وجوده في قاعة تنتهي به إلى التحقيق معه مثلي: 'يا عكروت، بتتذكر قديش سمّعتني حكي عن إسرائيل وطيبة أهلها، وحب اليهود للأجانب، ومعاملتهم الرائعة خصوصا للـّبنانيين اللي زيك. وأنا الخوف معقِّد لساني ومش قادر أرد عليك..خايف تنفضح هويتي وتعرف أنا مين؟! هلأ مبروك عليك لِستقبال الناعم من حبايبك، وانشا الله ما يدخلوك ع البلد بالمرة، انشالله يرجعوك مطرح ماجيت..وِن دخلوك، انشا الله تقع عليك حيطة مستوطنة مطرح ما بتبني'.
همست لي، وعزّاني همسي كثيرا، وصبّرني على ما أنا فيه.
انحنى الرجل على تعبه. غابت نظراته بين ركبتيه. وحين رفع رأسه يتخلص من ضيقه، كانت عيناه قد ارتحلتا بعيدا نحو باب الغرفة نصف المفتوح، تلملم كلاما يتبعثر خارجا منه، لن يفيده في التحقيق على أية حال.
لم يتذكرني إذن ولم أخطر له على بال. لعلّه لم ير فيّ الشخص الذي كان إلى جواره في الطائرة، يتململ من وقع أسئلته تحت إضاءة باهتة تشبه النعاس. وربما يكون قد عرفني وعمد إلى تطنيشي. غربلت الاحتمالات للحظات، ثم استبعدتها عدا الاحتمال الأخير. قررت تطنيشه بصورة إيجابية، وحمدت الله على نعمة هذا النوع من التطنيش.
كان الرجل الذي قال لي إنه أميركي يعمل بنّاء في القدس، ثرثارا مثل حلاق في مخيم لاجئين. طرح عليّ، خلال أقل من دقيقة واحدة، كل الأسئلة غير المرحب بها عادة، التي ينتظرني منها المزيد في الغرفة المجاورة بل لم يتردد في السؤال عن أدق تفاصيل رحلتنا، حتى عرف أننا في زيارة قصيرة للبلاد، وأننا سنمضي ليلتين نزلاء في فندق 'رمادا رينايسانس' في القدس الغربية. وحين سألني إن كنت أعرف الطابق الذي تقع فيه غرفتنا، وعلى أي مشهد من المدينة تطل شرفتها، أحسست به إلى جانبي ينتظر المصعد مثلنا. لم أجبه بفظاظة ولم أصرخ في وجهه: 'وانت إيش دخل اللي خلـّف أبوك..حلّ عن سمانا؟'. بل قلت له بتهذيب إنكليزي لئيم: 'هذا أمر لا يشغلني كثيرا، لأنني سأتجول على المدينة غدا، أزور معظم مناطقها وأتجول في أحيائــ..هاااااااهْمممممم'، وتثاءبت الكلمة الأخيرة، ثم أغلقت فمي على لعنة كادت تخرج منه.
لم يعلق الرجل، ولم يطرح استفسارا جديدا، حتى أنه لم يتثاءب وكأنه سيدفع ثمن ذلك، بل التفت إلى الجهة الأخرى، وراح يكمل ما تبقى لديه من ثرثرة لا قيمة لها، مع شاب يهودي فهمت أنه طالب جامعي أمريكي مثله.
تخلى باب غرفة 'تشليح المعلومات' عن نصفه المغلق، لأن سيدة في العشرينات خرجت منه، تبعتها، مباشرة، صاحبة المؤخرة الثقيلة، وابتعدتا.
ظهرت عند الباب شرطية أخرى، سمراء برقوقية، بلا مؤخرة، ملفوفة في جسد ناشف تستطيع أن تأخذه معها وتخرج من شق رفيع في باب مغلق. أشارت بيدها إلى 'رجل الحدود المفتوحة' فقام وتبعها إلى داخل الغرفة، وأغلقت الباب خلفهما.
مضت عشر دقائق لا أكثر، ولا بد أن الرجل خلعن خلالها، ما على ذاكرته من معلومات قطعة قطعة. قلّبتُ كل الاحتمالات، وتفحصت الأسئلة التي تنتظرني، الجديد منها والقديم، بما فيها أسئلة جاري الأميركي: هل هذه زيارتك الأولى، لماذا تزور إسرائيل، هل لديك أقارب هنا؟ أين ستقيم؟ كم ستمكث؟ ثم وهذا هو الأهم، هل ستزور الضفة الغربية؟ هل لديك هوية فلسطينية، جواز سفر صادر عن السلطة في رام الله؟ رقم فلسطيني؟ وهذه كلها ملامح محظور تهريبها إلى البلاد.
أجبت على معظم هذه الأسئلة من قبل. فبعد وصولي وزوجتي جولي إلى قاعة فحص الجوازات، انتظمنا في طابور قصير مستعجل. وحين جاء دورنا، قدمت جوازي سفرنا، لموظفة أمن في العشرينات من عمرها. لها رأس صغير ووجه لا يكاد يتسع لملامحها. طرحت عليّ من الأسئلة، ما يطرحه موظفو الأمن في عشرة مطارات عربية على مسافر فلسطيني واحد. وحين أدركتُ أنها ملّت من الأسئلة وربما من إجاباتي أيضا، وأنها توشك على ختم جوازي السفر، استوقفتها طالبا منها ألا تفعل، وأن تضع تأشيرتي الدخول على ورقتين مستقلتين.
شتمتني عيناها ببذاءة واضحة، وتجرأ عليّ لسانها: 'ألا يروق لك ختم إسرائيل على جوازك'.
'لا أستغني عن زيارة بلدان عربية كثيرة لا تقيم علاقات معكم'.
تدخلت زوجتني سريعا في أمر لا يستدعي التدخل: 'إذا بدها تختم الجواز برجع ع لندن'.
واصلتُ ما كنت سأقوله على أية حال: 'ثم إن زوجتي قد تزور أهلها وأقاربها في لبنان، بل الأغلب أنها ستزورهم قريبا.. أليس كذلك؟'
ارتاحت زوجتي، لكنها أجلت التعبير عن ارتياحها بشكل علني إلى وقت آخر، واكتفت بكيل المديح لموقفها، مؤكدة أن تدخلها هو الذي حسم الأمر: 'شُفت لو ما حكيت أنا كان ختمت الجواز'.
تخلّت الشرطية عن نكدها الوظيفي لصالح غضب طازج، قدرت أن يبقى على ملامحها بعض الوقت مثل لبخة نكد. وقد تأخذ منه الكثير معها إلى البيت بعد انتهاء ساعات العمل. وسوف تمضي وقتا منكودا إن هي قررت السهر هذا المساء.
'انتظرا هناك'.
انتظرنا، إلى أن رفع الضابط في مطار القاهرة الدولي رأسه نحو زوجتي التي كانت تقف خلفي، وتلتصق بي كأننا موثقان في جواز سفر واحد. مد إليها الضابط يده بجواز سفرها: 'تفضلي مدام..حضرتك تشرّفي'، ثم التفت إليّ: 'لا مؤاخزة يا افندم، حضرتَك ح تستنى معانا شوية'.
لم أعلق. ابتلعت انفعالاتي وهمستُ لي لمرة واحدة: 'يا فرحِتي ويا هنايا'.
طلب الضابط من موظف يجلس قبالته، إجراء مسح كمبيوتري بحثا عن معلومات تخصني، خرج منه الآخر، بعد دقائق، يؤكد بصورة علنية: 'مطلوب يافندم'.
نعم، أنا مطلوب لأمن الدولة، أعلى سلطة أمنية في البلاد، التي بات حضوري يهدد أمنها علنا. أنا الذي جئت مصطحبا زوجتي لنضع رأسينا خمس ليال على صدر أم الدنيا، ونتجول في معرض القاهرة الدولي للكتاب، نشتري بعض المطبوعات، وأوقع نسخا من الطبعة الثانية من روايتي 'السيدة من تل أبيب'، مطلوب لأعلى سلطة في البلاد. حقا يا فرحتي ويا هنايا، بعد أربعين سنة على اعتقالي وإبعادي من مصر، لأسباب سياسية رفعت رأسي عاليا ولم تحنه يوما (الانتماء إلى منظمة فدائية فلسطينية يسارية عضو في منظمة التحرير)، لم ينسني 'الجدعان' الساهرون على أمن البلاد. وها هم يؤكدون لي فضل التطورات التقنية الحديثة، في الحفاظ على اسمي في ملف إليكتروني، لا يطاله الغبار الذي تراكم عليه سنوات في الملفات الورقية القديمة.
تنفست إعجابا بأجهزة الأمن المصرية 'اللي فاكراني من أربعين سنة'، وعتبت على أجهزة الأمن السوري الشقيقة، التي تنسى عملياتها الكبرى سريعا. زارتني قبيل منتصف ليل 10 آب (أغسطس) 1976 بقليل، وحدة من أربعة عشر جندي أمن مسلح وضابط. اقتحمت شقتي الرقم 54 في بناية الست، في شارع بغداد، في 'قلب العروبة النابض' دمشق. قتلت رفيقي وجيه، المقيم معي (19 عاما). ألقت بجثته من الطابق الخامس. أخضعتني لتعذيب تواصل أسبوعا. ثم نسيتني، تاركة لي ظل وجيه يهوي من نافذة غرفتي المظلمة إلى بلاط شقة أسفل البناية طيلة أسابيع، إلى أن اقتلعت نفسي من المشهد كله ورحلت.
غادرت زوجتي المطار إلى القاهرة المدينة. وتقررت إعادتي أنا إلى لندن على متن أول طائرة. اقتادني شرطي من النوع المألوف، ممن رأينا مشاهد حميمة من أدائهم واجباتهم 'في خدمة الشعب'، في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، إلى مكاتب جانبية، ثم إلى 'قاووش' أبعد قليلا إلى الداخل، وألقي بي وسط مجموعة من الموقوفين الشباب.
تشرفت خلال إقامتي السعيدة في 'القاووش الأمني'، بالتعرف على شاب بحريني الجنسية مطلوب للشرطة الدولية، وآخر باكستاني وصل إلى مطار القاهرة بلا جواز سفر، وثالث مهرب مخدرات يشبه نماذجه في الأفلام المصرية، ورابع مخبر ساذج يدّعي أنه لبناني، يتحدث بلهجة سنَّة بيروت من سكان حي 'البسطة' بنكهة مصرية. كان المتنكر العلني يتصرف كمستأجر للقاووش، وأحيانا كمدير عام لإدارته بحكم عمله الطويل على ما يبدو. ولتأكيد ذلك، ميّز نفسه بفراش وسخ تخلى عنه لونه الأصلي، وحسده عليه الآخرون، مدده في الزاوية اليسرى المواجهة للباب. أما خامس نزلاء 'استراحة الشخصيات المهمة' تلك، فالتحق بنا عند منتصف الليل. كان فلسطينيا من سكان غزة، قدم من ليبيا في طريقه إلى قطاع غزة عبر معبر رفح. العائدون بالمئات، والسلطات المصرية قلّصت عدد الحافلات التي يسمح لها، يوميا، بنقل ركاب إلى رفح. ولم تسمح للعائد السعيد هذا بالإقامة في فندق إلى أن يتمكن من السفر، لسبب ما لم يفصح عنه، فوجد نفسه ضيفا على 'واحة الديمقراطية'.
افترشني في تلك الليلة الكانونية الباردة بلاط رطب ووسخ، وغطاني لحافان من قلق وتوتر، زوداني بكوابيس تناوبتني طيلة الليل المفتوح على التوجس والغضب، وقد لملمت نفسي في كتلة من الذل الوطني والإهانة القومية داخل مقعد بلاستيكي كان لونه أبيض ذات يوم. ارتجف حينا. أتمشى حينا، أسب قليلا، ألعن كثيرا، أغفو أحيانا. أستيقظ على كابوس، أو على صوت ضابط أو شرطي يذلُّني باعتذاره السمج: 'لا مؤاخذة يا دكتور..'.
خلال الساعات الأربع والعشرين التي قضيتها في التوقيف، تعرضت لـ 'حفلتي' استجواب في غرفة يجلس خلف مكتبها، ضابط برتبة عقيد في جهاز أمن الدولة، لو كنت مكانه لخجلت حتى من القيام بما جعلوه واجبي.
بعد ظهر اليوم التالي بقليل، أطلق سراحي وسُمح لي بالدخول إلى القاهرة.
عادت الشرطية التي تحمل مؤخرة بوزن هواجسي الثقيلة عندما تقيم لديّ بعض الوقت. أعادت لي ولزوجتي جوازي سفرنا ومعهما تأشيرتا دخول طبعتا على ورقتين منفصلتين.
اندفعنا خارجين غير مصدقين أن برنامج الرحلة سوف يمضي في الاتجاه الذي رسمناه، وأننا سنغسل متاعبنا برائحة فلسطين من جنوبها إلى شمالها، ومن نهرها إلى بحرها، ونستحم في هوائها.
تناولنا حقيبتينا ومضينا نحو الباب الخارجي. من بعيد، لاح لنا مضيفنا صالح عباسي، يلوِّح بذراع طالت حتى كادت تصافحنا، فلوحنا له بابتسامات تلقاها قبل أن نصله بكثير، بينما كانت سعفات أول نخلة شاهدتها في البلاد في زيارتي السابقة، تلوّح لنا عبر الزجاج الذي يشغل الواجهة، كأن ريحا ما همست لسعفاتها بوصولنا.
كاتب فلسطيني بريطاني وهذا فصل من عمل لم يكتمل