الشروق تخترق أسوار تجارة الرق في موريتانيا : ثورة العبيد تدق أبواب بلد شنقيط
lotfi Flissi
*بيع واستغلال ومظاهر لما وراء الإنسانية في موريتانيا
"بنت حرطان" ليست الفتاة الأولى في موريتانيا التي تتهم أسيادها السابقين باستغلالها دون وجه حق لكنها الأكثر إثارة منذ سن قانون جديد يجرم ممارسة الاسترقاق في البلاد بعيد وصول الرئيس الجديد سيد محمد ولد الشيخ عبد الله إلى سدة الحكم في الانتخابات الأخيرة.
ففي ضواحي مدينة "أركيز" بولاية أترارزة وعلى بعد أميال قليلة من العاصمة نواكشوط ولدت الغالية بنت حرطان وأختها الحامل من سيدها السابق "توعة بنت أحميده" في حي من "البيض" ووسط أجواء تطبعها المحافظة بعيدا عن سلطة الدولة وهيبة القانون عاشت السيدة أيامها الأولى مع أسيادها ضمن ثلاث أسر من "لحراطين" (الأرقاء السابقين) هم أسرة أهل "حرطان" وأهل "أبيليل" وأهل "إبراهيم" ضمن منظومة قبلية مغلقة.
لكن قبل شهور قررت الفتاة البالغة من العمر ثلاثين سنة تفجير أزمة سياسية كبيرة في المنطقة بعد أن حملت أختها الصغرى سيدها السابق الذي وعدها بالجنة –كما تقول- وتنكر لرضيعها بعد الولادة خوفا من العار داخل القبيلة ورفض السماح لها هي بالزواج ممن تحب ففهمت أنها الضحية القادمة كما تقول.
السيدة الغالية بنت حرطان تقدمت بشكوى رسمية قبل أسابيع ضد "السيد محمدو ولد أحمد باب" أحد سكان قرية "المنحر" التابعة لمقاطعة أركيز إلى فرقة الدرك هناك، حيث أحالتها إلى وكيل الجمهورية في روصو (المدينة الساحلية المحاذية للسينغال) "سيد محمد ولد مولاي أحمد" الذي قرر حفظ الدعوى بحجة عدم كفاية الأدلة وذلك بعد أن منعها سيدها هي الأخرى من الزواج، وحذر أي عريس يتقدم إليها؛ لأنها ملك يمينه وهو وحده المخول بالدخول بها رافضًا تحريرها حتى الآن.
وقد ادعت "الغالية" في شكواها أن المدعو "محمدو ولد أحمد باب" قرر شن حربًا لا هوادة فيها على الأسر السالفة الذكر بحجة أنهم عبيده الذين ورثهم عن والده، وقد طلب منهم الانتقال من مكان إقامتهم للسكن معه في القرية الجديدة التي انتقل إليها، لكن الأسر رفضت الانتقال معه فكان أول إجراء له أن طلب من إحدى الأسر التي كانت تعمل عندها ابنتهم عاملة منزل أن تطردها، بحجة أنها أمة له ولا يجوز لها أن تشتغل بدون إذنه فاستجابت الأسرة لطلبه وحرمت المسكينة من تحصيل رزقها لتجبر على الركوع أمام الضحية من جديد.
نقض الزواج
لكن ذلك لم يكن سوى البداية، حيث لجأ إلى فصل ابنتهم "تيدمات بنت عثمان" من زوجها المدعو "عبد الله ولد السالك"، حيث طلب من ولد السالك طلاق المرأة التي تحته باعتبارها امرأة له، لكن الأول رفض فتوجّه محمدو ولد أحمد باب إلى والد السالك وطلب منه أن يأمر ابنه بتطليق أمته، فطلب الأخير من ابنه تطليق "تيدمات" بحجة أنها أمة وهو حر، ومن غير اللائق به اجتماعيًّا أن يتزوجها فرفض عبد الله ذلك فدخل والده في إضراب مفتوح عن الطعام إلى أن استجاب ابنه لطلبه وفارق السيدة دون مبرر.
وحسب مصادر محلية في الولاية فإن حالة "تيدمات" ليست هي الأولى، حيث سبق للمدعو محمدو ولد أحمد باب قبل سنوات أن استغل إحدى قريبات الضحية المدعوة "توعة بنت أحميدة" التي ظهر عليها الحمل إبان عملها -دون أجر- عنده وقال لذويها: إنه قد زوجها لشخص مهم وعندما بدأ التحقيق اعترف بدخوله بها، وعندما وضعت تنكر لها وأعادها إلى أهلها برفقة ابنها المدعو الشيخ، وقد ذكرت بأنها قبلت أن يدخل بها معتقدة أنها ستدخل الجنة التي ضمنها لها، بعد ذلك بفترة تزوجت من شخص آخر وأنجبت له أربعة أبناء وتصدى له محمدو من جديد وطلب منه تطليقها، وعرض عليها أن تشتغل له دون أجر على أن يحرر لها أحد أبنائها بعد كل عام من الخدمة، إلا أن زوجها رفض ذلك وطلق زوجته التي قبلت ذلك.
جدل مستمر منذ عقود
وليست حالة الغالية الوحيدة في البلاد بل إن عشرات الحالات تم الإعلان عنها خلال السنوات القليلة الماضية كحالات بيع أو استغلال خارج العلاقة الشرعية أو تسخير دون أجر مما أحرج الحكومات الموريتانية المتعاقبة ودفع بالحكومة الجديدة التي يرأسها حاليا الوزير الأول الموريتاني السيد الزين ولد زيدان إلى الدفع بقانون إلى البرلمان شهر أغشت الماضي لمنع الإسترقاق في البلاد ومعاقبة مرتكبيه.
غير أن نشطاء منظمات حقوق الإنسان وبعض قادة الأحزاب السياسية لا يرون في الإجراءات التي اتخذتها الحكومة أمرا كافيا لردع المتاجرين بالبشر في موريتانيا ويطالبون بالمزيد وخصوصا تفعيل القضاء.
ففي سنة 2005 وخلال الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس السابق معاوية ولد سيد احمد ولد الطايع زج بعدد من نشطاء المنظمات الحقوقية في البلاد بعد الكشف عن حالة من أشهر حالات العبودية في موريتانيا وأكثرها تداولا لدى الأوساط الإعلامية والسياسية في البلاد.
وقد شكلت قضية "جابه الله" تطورا مهما في العلاقة بين الدولة الموريتانية والمنظمات الحقوقية وأعادت رسم صلاحيات الأسياد من جديد الذين كانت الدولة تحميهم وتتستر عليهم حتى عهد قريب.
جابه الله البالغة من العمر 27 عاما، كانت كأي أمة في منطقة "اترارزة" جنوب العاصمة نواكشوط ترعى شياه سيدها، في بلدة المذرذة، حين اكتشفها نشطاء في منظمة 'نجدة العبيد' التي تناهض الاسترقاق في موريتانيا، فصورها في وضعية مأساوية، وسجلوا تصريحات لها، تتحدث فيها عن تعرضها للعبودية على أيدي أسيادها، مع ولديها أمبارك والعيد، حيث حرمت من التعليم، وكان أسيادها يجبرونها على الأشغال الشاقة، كما أنها لا تتوافر لديها أوراق هوية ولم تمارس أبدا حقها في الانتخاب.
حرمان من أبسط مقومات الحياة!!
وتحكى "جابه الله" في لقاء متلفز وزعته منظمات حقوقية معها قصتها المأساوية وخصوصا فراقها لوالدتها وهى صغيرة فتضيف: 'كنت الوحيدة عند أمي، وقد فرق أسيادنا بيننا وأنا صغيرة، وما زلت أتذكر ذلك اليوم الذي أخبروني فيه بوفاتها، ولم أتأثر حينها لأنني افتقدها وأنا صغيرة ولم يكن لي ارتباط عاطفي بها، وأعمل منذ ولادتي في خدمة أسيادي وأرعى قطيع غنمهم الذي يتجاوز 300 رأس، وأقضي جل يومي في الرعي من الفجر وحتى المغرب، يساعدني ولدي أمبارك(سبع سنوات)، وهو يقوم كذلك بجلب الماء من الآبار العميقة لأسيادنا، لم أتعلم الكتابة ولا القراءة ولم أحفظ شيئا من القرآن، وأسكن مع ابني وزوجي في خباء من القماش، ولا نلبس من اللباس إلا ما يعطيه لي أسيادي بعد أن يكونوا قد ملوا لباسه، أو ما تتصدق به نساء الحي علي، وأغادر الحي كل يوم مع قليل من الزاد لرعي الماشية، ولا مجال في حياتي للراحة ".
بيع للعبيد من قبل الأسياد !!
وليست حالة جابه الأغرب بل إن حالات عديدة تشكل كل شهر أو شهرين على الأقل كان آخرها ماكشفت عنه منظمات حقوقية "للشروق" قبل يومين من بيع لشاب في مقتبل العمر من قبل سيده ورفض القضاء التحقيق في الحادثة رغم إقرار القانون الجديد الذي يجرم ظاهرة الإسترقاق.
فقد كشفت مصادر في تجمع المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان في موريتانيا لمراسل الشروق عن حالة بيع جديدة لشاب يدعى "إفكو" من قبل جاره "القاضي ولد الفاغ أمير" الذي أخذه كراع للماشية شمال البلاد من والدته "أخويدم الله" قبل أن يبلغها بوفاته غرقا في المحيط خلال رحلة صيد.
وقالت والدة الفتاة بأن التحريات التي قام بها رجال الدرك وأقارب الشاب أثبتت أن القاضي ولد الفاغ أمير لا يمتلك في الأصل قارب صيد وإنما باع الشاب لشبكة مجهولة داخل البلاد وخصوصا أن المفقود صغير السن متهمة رجال الدرك والنيابة العامة في مدينة نواذيبو الساحلية بالتواطىء مع الجاني من خلال رفض الجهات الإدارية والقضائية توقيف المتهم ورفضها لإجراء تحقيق محايد يشكف مصير الفتى الذي ضاع بعد ثلاثة أيام من مغاردته لذويه بولاية أترازرة متجها نحو الشمال للعمل قبل أن تفجع والدته بخبر وفاته أو بيعه!.
هروب نحو الإنعتاق
وقد شكلت المنظمات الحقوقية المدافعة حق الأرقاء في العيش الكريم ملاذا آمنا للعشرات من العبيد الذين هجروا الريف الموريتاني وغادروا إلى المدينة استنشاقا للحرية بعد سنوات من الاضطهاد ففي يونيو 2001، أعلنت نجدة العبيد (منظمة نشطة في موريتانيا) عن وصول َ شاب يُدعى مبارك ولد بلال ولد بريكات، ويبلغ من العمر نحو 17 عاماً، فارا من العبودية في منطقة كادي، وقال الشاب إنه ترك وراءه ثلاثة أخوة أصغر منه، وهم براهيم وابيليل ولقظف، وأخته الصغرى سليمة، وأمه كرومانية، وهي صماء وخرساء منذ ولادتها. والعائلة بأكملها تخضع للعبودية على ما يبدو لدى أربعة أخوة من البدو وتعمل في خدمتهم منذ عقود. ويبدو أن مبارك لم يحصل على أي قدرٍ من التعليم. فخلال مقابلةٍ مع منظمة "إنقاذ العبيد" بدت أميته بوضوح، حيث تبين أنه ليست لديه فكرة عن اختلاف أيام الأسبوع، ولا يعرف عمره أو عمر أخوته. وعلى النقيض من ذلك، فقد التحق أطفال أولئك الذين استعبدوه بمدرسةٍ إسلامية ودرسوا القرآن الكريم.
وذكر مبارك أنه أمضى عمره في العناية بالمواشي التي يملكها أحد الأخوة الأربعة، بينما تتولى أمه العناية بالأغنام والماعز، فضلاً عن جمع المياه وطحن حبوب نبات الدُّخن. أما الأشخاص الذين يستعبدون هذه الأسرة فيقتصر عملهم على التأكد من عودة الماشية من مرعاها، وبيع بعضها إن لزم الأمر، ومراقبة العمل الذي يقوم به الخاضعون للعبودية في مطلع اليوم ونهايته. كما أعلنت المنظمة سنة 1997 فرار سليمان ولد علي البالغ من العمر 30 عاماً، من الشخص الذي كان يستعبده حيث كان يعيش في بلدة لوتيدات في منطقة الحوض الشرقي بالقرب من الحدود مع مالي.42 وبالرغم من أن سليمان ولد علي يسعى للإفراج عن أمه، زايدة منت مبارك، وأخته، فاطمة منت زايدة، فإنهما لا يزالان خاضعين للعبودية، حسبما ماذكرت نجدة العبيد.
وروى سليمان أنه وُلد وترعرع في خيام أبناء وبنات الرجل الذي استعبده، وكان مسؤولاً عن رعاية قطعان الأغنام التي يملكها هذا الرجل، وتضم نحو 400 رأس من الخراف والماعز، بالإضافة إلى جمع الأخشاب والبحث عن المياه وطحن حبوب الدُّخن وإعداد وجبات الطعام، حيث كان يعمل بصورةٍ متواصلةٍ ولا يُتاح له سوى بضع ساعاتٍ قلائل للراحة.
ولم يكن يُسمح له بتناول أي طعام سوى ما يتبقى في قاع القدور، ولم يكن يحصل على أي قدرٍ من الحليب ونادراً ما كان يُسمح له بتناول كوب من الشاي. وكل خمسة أشهر كان يُعطى رداءً سميكاً وقصيراً يسمى "الدراعة " (وهو عبارة عن عباءة تغطي جسد الرجل)، وقد يكون جديداً أو مستعملاً، وفي كل عام كان يُعطى سروالاً مستعملاً. ولم تكن لدى سليمان أية أحذية أو أغطية تقيه من البرد، ولم يكن يتلقى أي علاج إذا توعك، بل كان يُتهم بالتمارض كلما قصر في أداء العمل.
هل تكفى القوانين؟!
مع وصول سيدي ولد الشيخ عبد الله الرئيس الحالي إلى سدة الحكم بأصوات الأرقاء السابقين إثر استمالته للزعيم المعارض سابقا مسعود ولد بلخير في الجولة الثانية من الانتخابات بدت حظوظ الأرقاء تزداد يوما بعد يوم خصوصا وان قائد مسيرة التحرير كما يحبون تسميته قد تربع بفعل اتفاق مع السلطة الجديدة على قبة البرلمان كأرفع منصب يصل إليه معارض في البلاد.
وقد أجبر تعهدات سيدي ولد الشيخ عبد الله لرئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي مسعود ولد بلخير قبل دعمه في الانتخابات الحكومة الجديدة إلى الدفع بمشروع قانون يجرم كافة مظاهر الإسترقاق في البلاد أجازه البرلمان الموريتاني خلال دورة استثنائية أغشت الماضي وبإجماع كل النواب.
وينص التشريع الجديد على معاقبة أي شخص يروج للرق أو يجد له الأعذار بالسجن لسنتين. ورغم التشديد إلا إن جماعات ناشطة في مجال مناهضة العبودية انتقدت القانون واعتبرته " غير كاف ولا يشمل كل أشكال العبودية" وتقول هذه الجماعات إن القانون الجديد لا يعطيها تعريفا يلائم الطريقة التي تمارس بها العبودية في موريتانيا.
واقترحت هذه الجماعات زيادة فترة العقوبة إلى ثلاثين عاما سجنا على الأقل وتوفير تعويض للضحايا. يذكر أنه تم تمرير قانون عام 2003 يجرم الاتجار في البشر مما زاد في قوة حظر ممارسة العبودية في البلاد.
ــــــــــــــــ
نواكشوط*/ سيد أحمد ولد باب