ثوار «ميدان التحرير» تحت ضغط «مصر الآن»
القاهرة – أمينة خيري
شباب الثورة المصرية بجميع أطيافهم ليسوا واقعين بين شقي رحى فحسب، بل بين مجموعة شقوق. صحيح أن مظاهر الفوضى والارتباك وعدم الاستقرار هي من الآثار الجانبية المتوقعة لأي ثورة، إلا أن ما يحدث حالياً أكثر من مجرد ارتباك. لقد باتوا مركز جذب رئيسي لأطراف وجماعات ومعتنقي مذهب الطفيلية السياسية من كل حدب وصوب، ويجد الثوار الشباب أنفسهم عرضة للتعجيز والتضخيم والتشتيت والتفريق والتهميش والتشويه.
قام الشباب، باختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، وربما في الأغلب من دون توجهات سياسية في الأصل، بثورة وصفت بأنها الأشرف والأطهر والأكثر أخلاقية، وكان يفترض أن تكتب كلمة «النهاية السعيدة» ليل 11 شباط (فبراير) الماضي بإعلان الرئيس حسني مبارك تخليه عن السلطة.
وأقيمت الاحتفالات بانتصار الثورة، وتوالت حفلات تأبين الشهداء، الذين راحوا ضحية لها، وبدأت مرحلة جديدة من الثورة هي الأصعب والأشرس فكرياً والأعمق جوهرياً. ماذا بعد؟!
هذا السؤال البالغ الصعوبة وجد شبابُ الثورة أنفسَهم واقعين تحت وطأته، فما بدأ كفعاليات احتجاجية على التعذيب والفقر والفساد والبطالة في يوم عيد الشرطة 25 كانون ثاني (يناير) الماضي، بلسان منظمي الفعاليات أنفسهم، تحول ثورة شبابية، ومن ثم شعبية لم يكن أحد يتوقعها، على الأقل في هذا التوقيت. ولأن الثورات تندلع عادة بغرض تحقيق أهداف محددة ومعروفة سلفاً، لكنها ترتكز على مبادئ معينة، فإن هذه الثورة اكتسبت شكلاً جديداً، اذ إن الأهداف لم تُبْنَ على مبادئ معينة. فعلى رغم أن الرغبة في القضاء على الفساد والتعذيب والفقر والبطالة حقيقيةٌ وبالغةُ المشروعية، إلا أنها تتسم بقدر كبير من العمومية، وهي عمومية تحتِّمها الاحتجاجات وليس الثورات، فكثيرون يحتجون على مظالم تقع عليهم، ويرغبون في إزالتها بشكل أو بآخر، لكنهم غالباً لا يهدفون إلى إزالة الكيان الكلي الذي أدى إلى حدوث هذه المظالم.
الكاتبة وأستاذة الأدب الإنكليزي المقارَن الدكتورة عزة هيكل تقول إن إحدى أبرز مشكلات هذه الثورة، هي أنها لم ترتكز على مبادئ معينة، وهو ما يعني أن الثورة مستمرة لم تنته، وإن كان الاستمرار يعني توقف التظاهرات والانتقال إلى مرحلة أخرى لترسيخ مبادئ الثورة التي ستحدد خطة العمل المرتقبة لتحقيق هذه الأهداف.
لكن عن أي خطة نتحدث في ظل خروج عشرات الائتلافات والجماعات من رحم ميدان التحرير، بل وظهور العديد من الانقسامات بين الشباب أنفسهم حول من هو مؤسس صفحة «كلنا خالد سعيد» على «فايسبوك»، والتي يعود إليها الفضل الأول في تنظيم تظاهرات 25 يناير؟ وعلى رغم اتفاق المجموعات والأفراد على روح الثورة وأهدافها، إلا أن أسلوب التنفيذ وخطة العمل يحتاجان إلى ما هو أكثر من ذلك.
وفي خضم الأيام الحالية التي يجاهد فيها الملايين، سواء بالدعوة إلى استمرار التظاهر في ميدان التحرير، أم بالعصف الذهني، أم بالنظر في تاريخ الثورات، أم بالدعوة إلى الله لإيجاد الحل الذي تتفق عليه الغالبية، فإن الشباب أنفسهم يتعرضون للكثير من الضغوط والمشكلات، بعضها عرض طبيعي لما بعد الثورة، والبعض الآخر ضغوط منظمة يُعتقد أنها تندرج تحت بند «الثورة المضادة».
وزير الدولة للآثار في الحكومة الانتقالية زاهي حواس أسس صفحة على «فايسبوك» يناشد فيها شباب مصر الوطني، ممن قاموا بهذه الثورة العظيمة، أن يتوجهوا فوراً لحماية الآثار المصرية في كل حدب وصوب. وتأتي دعوة حواس التي يجول بها على برامج الـ «توك شو» اليومية في أعقاب الأنباء التي تشير إلى تعرض المواقع الأثرية لعمليات نهب وسلب وسرقة في كل ليلة. والسبب في ذلك – على حد قول حواس - هو أن شرطة السياحة لم تعد بعد بكامل قوتها إلى مواقعها، بل أن موقعاً مثل الأهرامات يخلو من أي وجود للشرطة. ولذلك، فإن الاعتماد في الحماية يكون على الخفراء المسلحين بـ «الشوم» (العصي) فقط. وهذا – والكلام لا يزال منسوباً إلى حواس- يشجع البلطجية والعصابات على الهجوم على المواقع الأثرية وضرب الخفراء وتقييدهم تحت تهديد الأسلحة النارية والبيضاء. ويرى حواس أن الحل المنطقي هو أن يقوم شباب الثورة بحماية الآثار، لا سيما وأن وزير الداخلية مثقل بكم هائل من المشكلات.
يتساءل أحمد عطية (23 عاماً)، وهو أحد الشباب الذين لم يبرحوا ميدان التحرير طيلة 18 يوماً، عن هذه الدعوة الغريبة فيقول: «أنا على أتم استعداد لحماية آثار بلادي بالطبع، ولكن إذا كان الخفراء يتم الهجوم عليهم لأنهم لا يتسلحون إلا بالشوم، ووزارة الداخلية – كان الله في عونها – مثقلة بالهموم، فكيف يطلب من الشباب غير المسلحين أصلاً حماية المنشآت؟ هناك حلقة مفقودة وغير مفهومة».
تعجيز شباب الثورة يحتمل أن يكون مكوّناً من مكوّنات الثورة المضادة التي يشم كثيرون رائحتها، فمطالبتهم بما لا طاقة لهم به هو من التعجيز. خبراء ومحللون سياسيون يطلون عبر الشاشات يطلبون من شباب التحرير – وهم يعلمون علم اليقين أن الحديث عن شباب التحرير هو أشبه بالحديث عن إنسان الأرض - أن يخرجوا بقائمة مقترحة تحوي أسماء أشخاص يصلحون لتقلد مناصب الوزارة في المرحلة الانتقالية المقبلة. صحافي من بقايا النظام السابق يقترح تكليف عدد من شباب التحرير بحقائب وزارية. ويبدو التعجيز وسيلة مثلى لإجهاض الثورة، أو على الأقل لإفقادها رونقها.
ويمكن أيضاً إطفاء هذا الرونق من خلال الإفراط في الاحتجاجات والتظاهرات الفئوية التي تكاد توقف عجلة العمل تماماً في مصر، وهي الاحتجاجات التي يكاد يشعر البعض بأيد خفية تساهم في إشعال حدتها وإطالة أمدها حتى تبدو مصر في حال شلل تام بسبب الثورة.
زرْع الفتنة أو عدم الثقة بين شباب الثورة وبقية أفراد الشعب الذين بدأ البعض منهم يشعر بقلق بالغ جراء تعطل العمل والدراسة في كثير من المناطق، بالإضافة إلى استمرار غياب التواجد الأمني بالشكل المرجو، يؤدي كذلك إلى حصاد شبه مؤكد للانقسام الشعبي حول جدوى الثورة من الأساس.
ويبدو أن بث هذه الفرقة، اتباعاً للمبدأ الذهبي «فرق تسد»، له طرق وأساليب لا حصر لها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن لبرنامج «توك شو» أن يستضيف مجموعة من شباب التحرير ليقدمهم باعتبارهم أصحاب الرؤية الثورية، وهم (التوك شو) يعلمون علم اليقين أن تقديم هذه النوعية غير القادرة على بلورة أفكارها أو المبالغة في طريقة التعبير سيكون له أثر عكسي مضمون على شكل الثورة برمتها لدى جموع الشعب.
جموع الشعب هي الأخرى تقع في مشكلة من نوع آخر وتُوقِع فيها الشباب من حيث لا تدري، فتضخيم الدور الذي يتوجب على الشباب أن يلعبوه في الفترة المقبلة أيضاً يؤدي إلى عواقب وخيمة، والمقصود بالتضخيم هنا هو وضع تلال المسؤوليات والمهمات التي لا يمكن للشباب القيام بها، سواء بحكم الخبرة أو القدرة أم حتى الوقت. فلا خلاف على تحقيقهم حلم الملايين وإسقاط النظام – أو بالحري جزءاً من نظام فاسد، لكنهم في الوقت نفسه لا يملكون القدرة أو الأدوات التي تتيح لهم توفير فرص عمل، وإيجاد شقق سكنية، وتخصيص معاشات استثنائية، وفرض قوة أمنية، وتوقيع أذون علاج مجانية... وغيرها. صحيح أن من ضمن أسباب قيام الثورة القضاء على العوامل التي أدت إلى وجود هذه المشكلات من الأصل، لكنهم غير قادرين على حلها الآن.
وتبدو «الآن» كلمة السر في الثورة المصرية، فإلى أين يتجه الشباب الآن؟ وما الذي ينبغي أن يفعله الشعب الآن؟ وما الذي نتوقعه من الحكومة الانتقالية الآن؟ وهل تنبغي المطالبة بإقالة هذه الحكومة الآن؟ وهل ستتبلور نتائج الثورة الآن؟ وهل ما نعيشه الآن من عدم استقرار وغياب رؤية واضحة وبزوغ بوادر ثورة مضادة سيستمر، أم سيقتصر على الآن؟
الطريف أن سؤال «الآن» يطرح نفسه، ليس فقط بين شباب الثورة وشعبها، لكن عبر المحيطات، ووجد إجابات مطمئنة، وإن لم تكن شافية من المذيع الأميركي بريان لهرير، صاحب أحد أشهر برامج الـ «توك شو» في إذاعة «دبليو إن واي سي» في نيويورك، والذي درس تطور العديد من الثورات حول العالم. قال لهرير قبل أيام بينما كان يناقش الثورة المصرية، إن هذه الثورة، شأنها شأن أي ثورة حدثت وستحدث في العالم، تمر بمراحل عدة، «على أصحاب الثورة ألاّ يفقدوا النظر إلى الأهداف التي قامت الثورة لتحقيقها حتى لو لم يتم تحديدها بشكل علمي ومنهجي بعد. ولأن الواقع يختلف عن الرؤية، فإن من المهم أن تبقى الرؤية منفتحة ومراقبة للواقع، بغرض الاستفادة منه وبلورة الرؤية بشكل عملي. وطبيعي جداً أن تكون التجربة الأولى للحدث الجديد الذي خرج للنور لتوه هي الشعور بأنه (الحدث) لا حول له أو قوة. هو حدث أشبه بالطفل الصغير الذي لا يعرف شيئاً على الإطلاق في اليوم الأول للمدرسة، إنه يشعر بالصدمة والترقب المشوبَيْن بالخوف. لقد تخرج لتوه إلى عالم جديد حيث الصلات والعلاقات والقدرات على النجاح أو الفشل لم تتضح بعد».