الصحافة الثقافية المصرية إلى أين؟
الافتقار البيّن إلى الصحافة الأدبية في مصر يفسر أو يفضح الخلل في 'النوع الصحفي'.
قلم: عبدالسلام فاروق
أيتها الصحافة المصرية المنقرضة
بداية وقبل دراسة حال الصحافة الثقافية المصرية الراهنة، أود أن أسجل ملاحظة مهمة وهي:
الحديث عن الصحافة الثقافية في مصر موضوع ذو شجون، لما لها "أي الصحافة" من تأثير واضح على المشهد الثقافي والعاملين به منذ ظهورها في جريدة "الوقائع المصرية" عام 1832؛ ذلك لأن هذه الصحافة وعبر مسيرتها الطويلة أسهمت في تطوير الأدب وتوسيع دائرة المهتمين به ومنحت أدباء وشعراء مساحة يتعرف الجمهور فيها على نتاجاتهم الإبداعية.
فقد بدأ الدور الكبير والهام للصحافة الثقافية في عشرينيات القرن الماضي، إذ كانت الصحافة عاملا نشطا في تحريك المشهد الثقافي عموما، كما أنها وبما كانت توفره من مساحات لنشر وجهات النظر المتعارضة استطاعت أن تجتذب أدباء ومثقفين من تيارات فكرية مختلفة في الرؤية وفي الطرح مما أسهم في توسيع دائرة المهتمين بمتابعة هذا السجال الفكري الأمر الذي انعكس إيجابا على الأدباء وعلى المتلقين وأشاع روح البحث والتحليل.
ولعل أبرز ما يمكن تسجيله هنا أيضا، على الصحافة المصرية خلال السنوات العشر الأخيرة؛ يتمثل في تصّدر غير المهنيين على المهنة وتراجع الأعراف والقيم بشكل مهين فلا أعرف بلدا مر بظروف شبيهة؛ وأنا الذي زرت بلدانا عربية وأجنبية؛ وتابعت عن قرب صحافتها الورقية والإلكترونية؛ فلم أجد حالة تردي خارجة عن السياق، إلا عندنا فهي تكاد تفتقر إلى التصنيفات والتقاليد المتعارف عليها في العالم كله، فهل هناك بلد آخر، غير مصر، يسمح للمتطفلين بأن يهيمنوا على مقدرات الصحف والمؤسسات الصحفية، بينما ينزوي أصحاب المهنة في أركان المقاهي وزوايا البطالة!
هناك بالطبع، عشرات الأمثلة المتكررة، وأكاد أقول المضحكة، التي نجد فيها رجال الأعمال والعاطلين عن أي مهنة وهم يتقلدون المناصب الصحفية الأولى بينما يتم إبعاد أهل المهنة عن مجال العمل، ولأضرب مثالا شاخصا على ما أقول فهناك عدد كبير من الأدباء وهم معروفون بكتابة القصة والرواية والشعر والنقد والدراسات، ولكنهم بقدرة قادر أو إشارة أو واسطة ما، تسلقوا واجهات صحف ومجلات وملاحق ثقافية، وهم فقراء بأساليب المهنة وحساسيتها وخصوصيتها فترى الشاعر يصبح مسئولا على صفحة ثقافية يومية؛ وناقد يحبو يصبح مشرفا على ملحق ثقافي أسبوعي، ومحرر لا يكتب جملة عربية سليمة يكون رئيسا لتحرير صحيفة قومية كبري، وهنا نجد خلطا صارخا بين التحرير الصحفي وكتاّب الصحافة والفرق واضح (أو فاضح لا فرق!) بين الاثنين، ففي الأولى نجد صاحب المهنة والمحترف في العمل له مواصفاته المهنية وقدراته التحريرية، أما في الثانية فهناك الملايين التي تكتب وتنشر في الصحافة ولكنهم لم يكونوا صحفيين ولن يكونوا: طه حسين كان يكتب في الصحافة المصرية، وعباس العقاد كان يكتب مثله، وكذلك المازني، ثم صبري موسي، وعلاء الديب، فجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وعزت القمحاوي، كل هؤلاء وأكثر كتبوا في الصحافة المصرية والعربية، فهل أنهم صحفيون أم لهم وظائف وأدوار أخرى حسب أعمالهم وكتاباتهم؟
إن هذا الخلط المقصود يُراد منه تضييع المهنة الصحفية وتوزيع دمائها بين قبائل الكتاب والأدباء والنقاد؛ والخاسر الوحيد هو المهنة التي أُهدرت دماؤها علنا وأطيح بتقاليدها في الأرض، وتم تمريغ أنوف أصحابها الشرعيين في إسفلت المزادات والصفقات، وكان من الطبيعي أن تجد شريحة كبيرة من الصحفيين المحترفين نفسها خارج حسابات المرحلة واهتمام أولي الأمر، لكن البديل المكافئ موجود في ذلك الصيت وتلك المكانة التي حقَّقها صناع الصحافة الحقيقيين ولا يمكن أن تزول أبدا!
ويمكن أن تكون هذه الملاحظة العامة منطلقا لإثبات حالة سلبية أخرى ما زالت تنوء بها صحافتنا في راهنها الضبابي، فأنا سجلت ملاحظة إجرائية تتوغل في صميم الأزمة الخانقة التي تلف صحافتنا بعامة والثقافية منها بوجه خاص، هناك ما اسميه "تداخل المصالح والأمزجة" بين الألوان والأنماط الصحفية حتى وصل الأمر إلى تماهي بعضها وضياع كامل للحدود والسمات المميزة!
وقد حاولت في كثير من الندوات والأحاديث والكتابات أن أثبت الفروق المهنية والأسلوبية بين هذا النمط الصحفي وذاك والذي لا يجوز إطلاقا أن يتداخل العمل بينهما، فلكل خصائصه ولغته وتوجهاته، وبعد تجربة طويلة في العمل اليومي والمهني أدركت (وحاولت أن أشيع هذا الإدراك للآخرين) ان الصحافة تنقسم إلى أكثر من عشرين نمطا، ولكل نوع أو نشاط صحافته المميزة، وأسلوبه اللغوي المعروف، فهناك الصحافة السياسية والصحافة الاقتصادية والصحافة الرياضية والفنية والثقافية والبيئية والدينية، وسوى ذلك من أنماط معروفة وكل نوع من الأنواع المذكورة له فرادته الصحفية وقطاعه المهني وأشكاله الأسلوبية، لكننا لو أجرينا مراجعة سريعة لما ينشر اليوم على هذا البساط الطويل الذي يدعى بالصحافة المصرية لرأينا العجب العجاب من التزاحم (الذي ينبئ عن جهل فاضح بالمهنة لا عن تنوع مفترض!) وضياع الهويات، ولو سألنا مثلا هل ثمة فروق مميزة بين الصحافة الثقافية والصحافة الأدبية؟! غير أن السؤال الأكثر أهمية هنا يتعلق هنا فيما إذا كانت هناك صحافة أدبية اصلآ؟!
ولا أرى أنني سأفاجئ أحدا، من المختصين وأهل المهنة تحديدا، لو أجبت بشئ من الإطلاق أنه ليس هناك من صحافة أدبية حاليا في الصحافة المصرية، وهذا الحكم "المستند إلى إجراء" يشمل مساحة زمنية تمتد عقدين زمنيين وأكثر!
ولعل هذا الافتقار البيّن إلى الصحافة الأدبية في مصر يفسر أو يفضح الخلل الواضح في "النوع الصحفي" رغم وجود حالات التكالب في إصدار الكم وتشظي النمط إلى حد الاستنساخ، ومن السهولة ملاحظة أن هناك صحافات موجودة اليوم منها السياسية والدينية والرياضية وحتى الثقافية ولكن ليس من بينها جميعا صحيفة واحدة تعنى بالأدب لوحده بمعنى أن هناك صحفا تهتم بقضايا متنوعة أو كما يقال عامة وفيها صفحتان أو صفحة واحدة للشئون الثقافية وفي هذه الصفحة خليط عجيب، لا رابط بينه، فهناك ينشر النص الأدبي والمقالة الفنية والخبر المسرحي والمتابعة العامة والحوار التشكيلي، وفي كل هذا الخليط لا تكون هناك هوية أو وحدة تعبيرية فهي تجميع لشواغل شتى، ففيها الأدب والفن والفكر والمسرح ويتم حشر كل هذا حشرا، في صفحة ثقافة، وواضح لي أن في هذا تهويلا غير مبرر لمفردة ثقافة وكذلك تسطيحا للمعنى ليستوعب كل شيء باسم الثقافة.
ومن الطبيعي أن يقال إن الثقافة تعني مفهوما شاملا يجمع العلوم والآداب والفنون، فهل هناك صحيفة في العالم يمكن أن تستوعب كل هذا في صفحة واحدة أو حتى في جميع صفحاتها؟ ثم أننا لو عدنا إلى المعنى الاصطلاحي أو الشائع لمفردة "ثقافة" فيمكن أن تأتي الإجابة بأنها تعني كل شيء، وهذا يعني أن الصحيفة مشمولة بالمعنى الثقافي من الغلاف إلى الغلاف لأن السياسة والاقتصاد والشأن الاجتماعي والعسكري والفكري والأدبي والفني كلها مواد ثقافية، فلماذا يطلق إذًا على ما ينشر في صفحة واحدة توصيف ثقافة، وما هو الذي ينشر في بقية الصفحات أهو خارج الثقافة؟
لو أخذنا إذًا بهذا الفهم الاصطلاحي ستكون كل صحفنا ومجلاتنا ثقافية، وهذا من المستحيل قوله لأن هناك صفحات وأجناسا متفرعة عن المعنى الأول وأنشئت لها مطبوعاتها وعناوينها وهياكلها الخاصة، فتشكلت الأنواع الصحفية التي نعرفها حاليا، أما الفهم الآخر لمفردة "ثقافة" فهو يعنى بمتابعة الشئون الأدبية والفنية والعلمية فقط، وهذا تعميم آخر وقع في مطبه كثيرون حتى من العاملين المهنيين، فكما أن هناك صحافة علمية وصحافة فنية فإذًا هناك صحافة أدبية تعنى بالنصوص الأدبية والحوار الأدبي والنقد الأدبي والاستطلاع الأدبي وسوى ذلك من شئون تنصب على الأدب أساسا، فهل لدينا صحافة من هذا النوع يقترب من نموذج صحيفة "أخبار الأدب" المصرية؟
يقينا أنه لم تكن لدينا صحيفة واحدة يمكن أن تقترب من هذا النموذج، ولكن كانت هناك ملاحق ثقافية ينشر فيها الأدب إضافة إلى أنماط ثقافية أخرى، وهذا ما نجده مثلا في ملحق "أدب وثقافة" الذي تصدره جريدة "الأهرام" القاهرية، وكذلك جريدة "الشروق"، وهذان المثالان أبلغ دليل أسوقه على نفي وجود الصحافة الأدبية في مصر إذ أن ما ينشر فيهما من أعمال ومغامرات كتابية تظهر كم إننا واهمون أو قاصرون على تمثيل الصحافة الأدبية في مطبوعة متخصصة.
لهذا قلت أكثر من مرة بان ليس هناك من صحافة أدبية في مصر، وأرجو من الآتي القادم أن يعطينا مثالا واحدا يجعلني أتراجع عن مقولتي هذه ولكن هل سيأتي عن قريب؟ حقيقة لا ادري ولا أعوّل كثيرا!
وحتى اقرّب للأذهان صورة مجّسدة لفداحة ما ينوء به الوسط الصحفي الراهن، أود هنا أن أذكر واقعة شهدتها شخصيا عن قرب، إذ قام رئيس تحرير جريدة قومية يومية بإصدار ملحق رياضي (ملّون) يكلفه مبلغا ضخما ويوزع مجانا مع العدد ثم قام رئيس التحرير ذاته بإصدار ملحق أسبوعي خاص بالطفل (وأيضا ملوّن ويوزّع مجانا)! ولا غرابة هناك لو أن المسئول يمتلك قدرات مالية وفنية وتحريرية تدفعه لزيادة الملاحق والصفحات بصورة مضطردة أسوة بالمنافسين الآخرين، ولكن المؤلم أن يأتي هذا التوسّع على حساب الصفحات الثقافية في الجريدة ذاتها، بمعنى أن يقوم المسئول بتقليص المساهمات الثقافية الفعلية، بحجة الصعوبة المالية في تدبير الأجور والمكافآت، ويقوم بإملاء الصفحة المخصصة بما تجود عليه شبكة الإنترنت (المجانية) بما كبر حجمه وقلّت فائدته!
طبعا لم يتخذ المسئول المذكور قراره ذلك إلا بعد مشاهدته العينية لما تقوم به صحف ومجلات أخري من استهانة ونظرة قاصرة وتعامل فوقي للعمل الصحفي الثقافي حتى وان أدى ذلك إلى اختفاء الصفحات الثقافية أو اختناقها تحت ركام الإنترنت وأخواتها!
والمأساة الأكبر في أن هناك نظرة عامة من قبل أغلب الصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية ترى أن الثقافة آخر ما يجب التفكير به أو الاهتمام ينصب على الصفحات السياسية والفضائحية والرياضية في حين توارت المساحات المخصصة للثقافة (وبصورة أخصّ الثقافية الأدبية) إلى الهامش الصحفي وانزوت في ذيل اهتمامات المسئولين أو المتربعين على عرش صاحبة الجلالة!
وقائع كهذه نجدها تتكرر وبصورة مستنسخة في غير مكان من الذي يطلق عليه بالمطبخ الصحفي! تكاد تعطي مسوغا منطقيا لما نراه من أكوام الصحف والمجلات المنتشرة في شوارع القاهرة، ولا نجد فيها صحيفة أدبية أو صفحة تعنى بالثقافة الأدبية تحديدا مع أن مصر مّرت في عقود سابقة بازدهار حقيقي وطفرات نوعية بالصحافة الثقافية ومنها الأدبية، حتى لم تكن هناك صحيفة أو مجلة دون أن تفسح مجالات محترمة للقسم الثقافي الأدبي تظهر من خلاله الكتابات والنصوص والأسماء الجديدة التي تفعّل الشريان الثقافي العام، ويمكننا أن نقول بثقة لا تعوزها الدلائل أن عقد الستينيات في القرن الماضي شهد نضجا ثقافيا قلَّ نظيره حين تبارت الصحافة يومها بالتنافس على الصحف الأدبية والملاحق المتخصصة بالضبط كما تفعل الصحافة اليوم وهي تصدر الملاحق الملونة لصالح عيون (ميسي) و (أليسا)!
ولكن الكوميديا المصرية التي شهدت تحولات خرافية في المناخ العام وفي تزوير الصور والانتخابات وصعود أطياف جديدة من المسئولين الذين بلا مؤهّلات تذكر (إلا ما غذته التقارير وزكّته الأجهزة)!
هذه التطورات المتلاحقة بما فيها من فجائع ومحن وانقلابات ألقت بظلالها الكئيبة على ساحات صاحبة الجلالة فأعلت أقدارا، ودفعت قامات أخرى إلى السفح أو المنحدرات السريعة، وهكذا كان نصيب الصحافة الثقافية (الأدبية تحديدا) أن تنزوي بعيدا عن اهتمام رؤساء التحرير الجدد حتى بتّ شخصيا أخشى إن تنقرض هذه الصحافة كأحد نتائج تسريبات ويكليكيس!
ولو مررنا سريعا على ما يصدر اليوم (وقد تجاوز الخمسمائة عدا ونقدا) لا نكاد نرى وجودا بارزا للصحافة الأدبية المغضوب عليها، فليس هناك ملاحق على الإطلاق تعنى بالشئون الأدبية وحتى الصفحات اليومية الأسبوعية المخصصة للثقافة، فإنها في أغلبها تهتم بجوانب وأنشطة فنية ومنوعات وهناك متسع دوما للمشاريع الشخصية وهذه الأنشطة تنشل غالبا من مواقع الإنترنت والصحف العربية والعالمية.
ومن الغريب ألا تفكر جهة واحدة (رسمية) أو (غير رسمية) بإصدار جريدة متخصصة بالأدب وفنونه لتحاكي ما يجري من نشاط وفعالية في الوسط الأدبي المصري المعروف انه من أنشط الأوساط العربية, وقد بادرت "دار أخبار اليوم" بإصدار جريدة يتيمة بعنوان "أخبار الأدب" كان يفترض أن تخصص للنشاط الأدبي، ولكنها بحكم القائمين عليها تحولت إلى أغراض أخرى واهتمت بالإنتاج العربي والعالمي والمستجدات في الحقول النقدية أكثر من اهتمامها بالشئون الأدبية في مصر، وهذا ما قلَّص فرص الإفادة منها وجعلها محصورة في بيئة خانقة ولدى شريحة محددة, وسوى هذه المبادرة اليتيمة لم نجد أي استذكار للصحافة الأدبية. والمخاطر الحقيقية التي تدفعها إلى مصير منتظر.
وفي أوائل القرن الواحد والعشرين سافرت إلي فرنسا والولايات المتحدة الأميركية (بقصد الدراسة) وطوال سنة وربع تابعت يومياً ما يصدر هناك من صحف ومطبوعات تلاحق أنشطة الحياة الفرنسية والأميركية، وكان للصحافة الأدبية شأن مرموق فيما يصدر من صحف وملاحق وقد خرجت بنتيجة، أكدت لي فيما بعد أن الصحافة الأدبية في مصر تفتقر إلى كوادر تحريرية متخصصة في الوقت التي تتميز به فنياً ، أما اليوم فالأمر معكوس إذ أن الحركة الأدبية المتفجرة بالجديد تنتج دوماً كوادر متخصصة في التحرير والمتابعة والجرأة لكنها تعاني من نقص خطير في إصداراتها وفي الجوانب الفنية والطباعية والمالية المساندة لها.
تلك هي الحقيقة التي خرجت بها من تجربتي بعد عشرين عاما تقريباً ، تكاد تعاد اليوم بقوة بحكم الواقع والتغيرات الحالة في النظرة إلى الصحافة الأدبية حتى ما عدنا نستطيع أن نخرج بحصيلة تعكس الحياة الأدبية في مصر؛ وهذا الحال البائس يجعلنا نقول أو نصرخ (وأتمنى ألا تكون صرخة في واد) إن المسئولية الصحفية والوطنية تدفعنا إلى المطالبة الدائمة بضرورة الانتباه إلى ما تعانيه الصحافة الأدبية من تراجع ونظرة دونية من بعض المتولين عليها؛ حتى لا يأتي يوم قريب أو بعيد نقول فيه بحزن سلاماً.. أيتها الصحافة المصرية المنقرضة!