الأجهزة الأمنية تحت المجهر
إصلاح أجهزة الأمن هو الجزء الأكثر تعقيدا في تحول الأنظمة السلطوية إلى أنظمة ديمقراطية، خاصة عندما يجري التحول بطرق سلمية وتوافقية بلا ثورة ولا انقلاب ولا إراقة دماء... لأن أجهزة الأمن والدرك والمخابرات والجيش تشكل النواة الصلبة لـ«السلطوية»، خاصة في الأنظمة العربية، ولأن قادتها يشتغلون لعقود طويلة خارج القانون، ولأنهم يدمنون على فائض القوة والبطش الذي يجري بين أيديهم، فإنهم يجدون صعوبات كثيرة في التأقلم مع مسار التحول الديمقراطي، بل ويحاولون إجهاضه بكل وسيلة وحيلة، خاصة وأنهم خبراء في «التلاعب بالمعلومات»، وتضخيم المخاطر، واللعب على التناقضات...
منذ صدور توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2005، التي أوصت باعتماد حكامة أمنية غير موجودة إلى الآن، ودعت البرلمان والحكومة إلى فرض رقابة على عمل أجهزة الأمن... منذ صدور هذه التوصيات وهي حبر على ورق، رغم أن الكل تبناها، وتم استقبال أعضائها في القصر، في إشارة إلى مباركة عملها. ورغم أن كل الطيف السياسي رحب بهذه التوصيات، فإن قوة الأجهزة الأمنية وقوة مراكز النفوذ التي تستفيد من هذه الأجهزة منعت من تفعيل هذه التوصيات، وجعلها قوانين وأفعالا وممارسات تمشي على الأرض.
الآن هناك فرصة «نادرة»، بمناسبة فتح «علبة الدستور» للرجوع إلى «معضلة» الحكامة الأمنية، ومحاولة إصلاح عمل هذا الأخطبوط الذي يتصرف خارج مراقبة الحكومة وخارج محاسبة البرلمان والرأي العام...
الأمن موجود لخدمة المواطن والمجتمع، وليس لترهيب الناس والمس بكرامتهم.. الأمن يمول من جيوب دافعي الضرائب، ولهذا لا حق لأحد في أن يمنع محاسبة هذه الأجهزة ومراقبتها. الأمن موجود لحماية الأرواح والممتلكات والاستقرار، وليست وظيفته أن «يُجلس المعتقلين على القراعي»، وأن يقدم خدمات التعذيب لأمريكا في معتقل تمارة السري، ولا أن يتجسس على مكالمات المواطنين، فيوظف بعضها ضدهم، ويعرض بعضها للتسلية في جلسات السهر...
الأمن والدرك والمخابرات والجيش والاستعلامات والإدارة العامة للوثائق والمستندات لا تقوم بوظائف «تقنية» فقط، وفق ما ينص عليه القانون، بل إنها تقوم بوظائف «سياسية»، من خلال التجسس غير المشروع على المواطنين، ومن خلال فبركة الملفات ضد من تعتبرهم السلطة معارضين، ومن خلال نقل أخبار كاذبة أو غير دقيقة إلى مراكز صنع القرار، ومن خلال التأثير في وسائل الإعلام، ومن خلال توجيه الملفات المعروضة على القضاء. أكثر من هذا، صارت هذه الأجهزة في السنوات الأخيرة تتصارع مع بعضها وتصفي حساباتها الداخلية في ما بينها، لأن ولاءاتها تعددت، وقوة التحكم ضعفت، فأصبحت تلعب أدوارا كبيرة في التعيينات والصفقات الكبرى والملفات الدبلوماسية وصفقات شراء السلاح، وتمويل أنشطة ما يسمى بـ«المجتمع المدني»، علاوة على الاهتمام بقضايا المهاجرين والتأطير الديني والنشاط الثقافي...
نحن، إذن، أمام «حكومة كاملة» لم تخرج من صناديق الاقتراع، ولا صوت عليها البرلمان، ولا عرف الرأي العام من أين أتت وإلى أين تذهب بنا، ولهذا فإن المقترحات التي دفع بها أكثر من حزب إلى لجنة تعديل الدستور، مثل جعل الأجهزة الأمنية تعمل تحت رقابة البرلمان، وحق هذا الأخير في استجوابها ومراقبتها، وجعل المجلس الأعلى للحسابات يدخل مقراتها، وإعطاء رئيس الحكومة صلاحية اقتراح أسماء مدرائها على الملك بعد التداول بخصوصهم في مجلس النواب... كل هذه المقترحات وغيرها ستجعلنا نخطو الخطوة الأولى على درب «الحكامة الأمنية»، أما مفتاح الحل لهذه المعضلة ولأخرى غيرها، فهو قضاء قوي، مستقل ومهاب الجانب.. لا قضاء يخاف من الأجهزة أكثر من خوفه من الله والشعب والتاريخ...