تاجر الخردوات
قصة قصيرة
عادل سالم
أديب عربي مقيم في الولايات المتحدة
رئيس تحرير ديوان العرب
كان يحمل كيسا ثقيلا على ظهره، يخترق الزحام متوجها من باب الخليل في البلدة القديمة من القدس إلى باب السلسلة، كان يصيح بأعلى صوته ليستطيع شق طريقه بين أمواج البشر في تلك الشوارع الضيقة:
- اوعى ظهرك، اوعى رأسك،
كان الكيس قد أتعبه، فقد أمضى نهارا كاملا وهو يتنقل به من شارع إلى آخر، ومن زقاق إلى غيره. عندما وصل شارع طريق الهكاري الذي يمتد من باب السلسلة حتى حي القرمي، تنفس الصعداء، هناك تقدم من بسطة أبو زكي التي كانت تقع على تقاطع الشارعين مقابل محلقة زغلول الشهيرة في ستينات القرن العشرين.
أنزل الكيس عن ظهرة، ورماه أمام بسطة أبو زكي قائلا:
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام.
هب أبو زكي واقفا وقال له بعد أن شاهد الكيس:
- يبدو أنك هذه المرة وفقت كثيرا.
- يعني ، ماشي الحال، الحمد لله.
كان أبو زكي صاحب بسطة لشراء الخردة، (الأواني النحاسية، التوتية، الرصاص، وغيرها من المعادن) وبعد أن يجمعها يبيعها إلى شركات السكب، والحديد، والنحاس، حيث كانت له شبكة اتصالاته، أبو زكي طويل القامة أشهر من نار على علم وبسطته في مكان مزدحم بالمارة، يعرفه كل سكان المنطقة فقد غلب اسمه على اسم الشارع التركي.
فتح أبو زكي الكيس وبدأ يقسم الأدوات القديمة التي فيه حسب نوعها، فهذا نحاس أحمر، وهذا أصفر، وهذا رصاص…إلخ. كان يفعل ذلك دون أن يستعين بمغناطيسه الكبير، فهو رجل خبير في مهنته، أكثر من ثلاثين سنة وهو في نفس المهنة.
انتهى أبو زكي من تقسيم محتويات الكيس، فبدأ يوزنها بالميزان ويسجل على دفتر وزن كل نوع، وسعره، ثم استدار إلى كامل صاحب الكيس وقال له:
- افرح يا حاج كامل، اليوم دخلك خمسة دنانير وستون قرشا.
ابتسم الحاج كامل وقال:
- الحمد لله، الحمد لله، هذا رزق من رب العالمين.
مد يده إلى (أبو زكي) واستلم المبلغ، وهو في قمه سعادته.
أول شيء فكر فيه حلاقة شعره، وذقنه، فدخل إلى محلقة زغلول المواجهه لبسطة أبو زكي. رحب به زغلول وأشار له أن يجلس على الكرسي الأوسط، ففي المحلقة ثلاثة كراس للحلاقة ويعمل لدية حلاقان آخران.
كان زغلول مشهورا في البلدة القديمة فمحلقته الوحيدة التي تضم ثلاثة كراسي، وهو حلاق قديم، وأهم شيء لسانه الذي لا يدخل فمه كعادة الحلاقين. فكل من يحلق عنده يخرج حاملا كل أخبار البلد، ويخرج سعيدا بالحلاقه، فزغلول حلاق ماهر، يده كما يقول زبائنه خفيفة مثل دمه، صاحب نكته، وهو رفيع مثل أبو زكي لكنه أقصر منه.
كان زغلول يحكي للحاج كامل أخبار البلد فيما كان هو سارحا يفكر بزوجته وأولاده، ماذا سيشتري لهم بالمبلغ الكبير الذي قبضه اليوم، ووضعه في محفظته؟ لقد أوصته زوجته، أنه لا يوجد لديهم شيء، وطلبت منه أن يشتري بعض الخضار والدجاج أثناء عودته. قال كامل مخاطبا نفسه:
- سأشتري لهم لحما، ودجاجا، وخصارا وفواكه. هذه الليلة ستكون ليلة عيد لنا.
صمت قليلا ثم قال:
- الآن بعد الحلاقة سأعود شابا.
لكن أرجو أن ينام الأولاد مبكر، الغرفة لم تعد تكفينا، ثلاثة أولاد وأنا وأمهم في غرفة؟!!
عندما ينتقل جاري أبو محمد سأرى إن كان بإمكاني استئجار غرفته، هكذا ينام الأولاد في غرفة وأنا وأمهم في الغرفة الأخرى.
انتهى زغلول من الحلاقة، قال للحاج كامل وقد حمل مرآة صغيرة ووقف خلفه موجها مرآته خلف رأسه. نظر كامل إلى المرآة الكبيرة أمامه، لم يهتم بخلف رأسه، كان يدقق بوجهه وذقنه، تحسس خديه، فشعر بنعومتها، ابتسم وقال متمتما:
- هذه الخدود بحاجة لشفتي أم الأولاد!!
شكر زغلول على جهوده، ودفع له أجرته، عشرة قروش وحمل كيسه وتوجه إلى الأعلى باتجاه سوق اللحامين. كان أول شيء فكر فيه أن يشترى لهم اللحمة.
- لحم خروف، سأشتري لهم خروف، منذ ثلاثة شهور لم يأكلوا لحم الخروف، لقد ملوا لحم الجمل.
كان الحاج كامل يشتري لحم الجمل (لأنه أقل تكلفة) من ملحمة زاهدة الواقعة قرب خان السلطان في أول باب السلسة من الأعلى، مقابل درج الطابون مباشرة، لكنه لم يدخل إليها وتابع سيره إلى سوق اللحامين. سيشتري أفضل لحوم الخروف. فدخله اليوم كان كبيرا، لم يحصل على مثله في حياته.
وصل سوق اللحامين، رائحة اللحوم تزكم الأنف، لحوم، دم، أمعاء…إلخ. وقف أما ملحمة أبو عيشة ينتظر دوره فثمة عدة زبائن قبله ينتظرون شراء اللحم.
بعد ربع ساعة سأله البائع، رجل في الخمسين من عمره، أشيب الشعر:
- أمرك ماذا تريد يا حاج كامل؟
- 2 كيلو لحم خروف، وكيلو لحم بقر مفروم مع بصل وبقدونس.
- أوف 2 كيلو مرة واحدة؟! لم تفعلها من قبل.
- الحمد لله، الله رزق.
مد يده الحاج كامل إلى محفظته ليدفع الحساب فيما بدأ البائع بتقطيع اللحم. فوجئ كامل بأن محفظته ليست في مكانها فأصيب برعشة، تفقد جيبه الثاني فلم يجدها احمر وجهه، تفقد كل جيوبه، لم يجد أثرا للمحفظة.
جن جنونه، لاحظ البائع ارتباكه فسأله:
- ما الأمر؟ هل نسيت الفلوس في البيت؟
- يا ريت، سأعود إليك دعني أذهب للبحث عنها.
عاد الحاج كامل مسرعا من حيث أتى يبحث على الأرض عن محفظته الضائعة. كان يدقق في كل مكان رغم الازدحام في الأسواق، ولم يتردد في سؤال بعض أصحاب المحلات، لكن بدون فائدة.
ضاعت الفلوس! ضاعت؟!
وصل محلقة زغلول وسأله إن نسي المحفظة عنده، فقال له:
- أذكر جيدا أنك بعد دفع الحساب وضعتها في جيبك.
هز رأسه دون أن يبتسم وتابع سيره إلى سوق اللحامين مرة أخرى لعله يجدها هذه المرة لكن دون نتيجة.
أحس ببعض الدمعات تتساقط على خديه:
- (كل عمل اليوم وما تبقى من عمل الأمس ذهب بدون رجعة سينام الأولاد الليلة بدون عشاء، لماذا يا رب؟ ما الذي أذنبته؟ لم أسرق، لم أنهب، فلوس حلال، طوال النهار وأنا أطارد من شارع إلى شارع ومن حاوية نفايات إلى أخرى في شوارع القدس الغربية، لم أسلم من ملاحقة الأولاد اليهود الذين كانوا أحيانا يسخرون مني ومن مهنتي، ويلاحقونني صارخين بي:
- عربي وسخ (عربي ملخلاخ)، انصرف من هنا.
بعضهم ضربني بالبيض على رأسي، لكن الحمد لله لم أصب بأي منها. بعد كل هذا يأتي من يسرقها.
لعن الله هذه الأسواق المزدحمة بالناس، التي تترك الفرصة للنشالين ليسرقون عرق جبين غيرهم.
عاد الحاج كامل بدون اللحم والخضار إلى بيته الكائن في حوش الشاي، ذلك الزقاق القصير الذي لا يزيد عن (٢٠٠) متر. يمتد من أول طلعه حوش الغزلان مقابل بقالة (غالب الرشق) الصغيرة وينتهي عند ساحة درج الطابون حيث تقع دار زاهدة إلى اليمين من الشارع.
دخل الحاج كامل العمارة التي يسكنها وكالعادة عندما يهم الرجال بدخول العمارة يبدأون باشعار نساء العمارة بوصولهم ليلزموا بيوتهم، قال بصوت عالٍ:
- يا الله، يا ستار، يا كريم.
كررها عدة مرات وهو يضع قدمه على أول باب العمارة، تفرقت النسوة من الطريق، فتابع الحاج كامل سيره إلى غرفته، سمعت زوجته صوته ففتحت له الباب.
وعندما دخل فوجئت والأولاد أنه لا يحمل شيئا.
نظرت إليه وقالت:
- نعيما يبدو أنك حلقت شعرك وذقنك؟
لم يبتسم كعادته لكنه رد عليها قائلا:
- الله ينعم عليك.
- ماذا بك؟ أراك عابسا وقد عدت بدون شراء الأغراض، هل نسيت...؟
- لا لم أنس، ألا يوجد لدينا شيء تعدين به طعام العشاء؟
لم تجب، كانت تعلم أنه لم يتم حديثه بعد. قال لها:
- ولكن حصلت مصيبة... مصيبة يا نعيمة، اتركيني لا أريد الحديث.
- حاج كامل ماذا حصل؟ أقلقتني يا زوجي.
تنهد عميقا، جلس على إحدى السجادات على الأرض، وقال لها:
- سرقوني يا نعيمة، لأول مرة في حياتي يستغفلني النشالون ويسرقون محفظتي، كان بها حولي ستة دنانير، هي كل ما نملك، لم أستفد منها سوى أجرة الحلاقة، وعندما ذهبت لشراء اللحمة، لم أجد المحفظة، ولم أعثر لها على أثر.
كان وجهه أحمر، وكاد يبكي لولا أن الأولاد الثلاثة جلسوا بعيدا عنه يستمعون إلى حديثه مع أمهم مشدوهين غير مصدقين.
قالت له:
- معقول؟! الله لا يوفق الذي نشل محفظتك، اللهم اجعله يشتري بالنقود أدوية لأولاده بعد أن يصابوا بداء السرطان.
- يا نعيمة حرام عليكِ. قولي اللهم انتقم منه، لكن من أولاده؟ ما ذنبهم.
- فقالت له:
- وعندما سرق الفلوس، ألم يترك أولادك دون عشاء؟
نظر إليها محاولا أن يحافظ على اتزانه أمام أولاده، قال بصوت هادئ رافعا يديه إلى السماء:
- يا رب أشكو إليك حالي، لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.
وقفت الأم تفكر ماذا تفعل لإطعام الأولاد، اقترب موعد العشاء، بينما هي في حيرتها دق الباب، ذهبت لتفتحه فإذا به ابن الجيران مع أخيه، ابنا جارتها أم سعيد يحمل كل منهما صحنا من طعام (شوشبرك). سألتهما: ما هذا؟
فقال لها سعيد:
- أمي أرسلتنا بهذين الصحنين، اليوم مناسبة وفاة جدي (أبو والدي) الثانية، وقد أقمنا وليمة ونوزع الأكل على كل الجيران. تقول لك لا تنسي جدي بدعواتك.
لم تصدق نعيمة ما سمعت، أخفت فرحتها، حملت صحنا من سعيد ونادت ابنها البكر حسن ليحمل الصحن الثاني، فتسابق الأولاد ليساعدوا أمهم في حمل الصحنين.
شكرت نعيمة الولدين وقالت لهما:
- بلغا أمكما شكري، رحم الله جدكما وأسكنه فسيح جناته.
أغلقت الباب وراءها، ثم طلبت من الأولاد وضع الصحنين على الأرض وحذرتهما من سقوط أي صحن من يديهما.
دخلت إلى الحاج كامل، وقالت له:
- لقد سمع الله دعاءك. هذان الصحنان من دار جارنا (أبو سعيد) عن روح والده في ذكراه الثانية أرسلتهما أم سعيد.
هيا بنا جميعا للعشاء، لا بد أنك جائع.
هز الحاج كامل رأسه، وقد شعر ببعض الراحة، فأولاده لن يناموا جائعين. قال لها:
- كلوا أنتم، فأنا لست جائعا، لقد تغذيت متأخرا.
كان يخفي عنهم حقيقة جوعه، كان يريد التأكد أن الأكل سيكفيهم.
(الأكل لن يكفي خمسة ليأكل الأولاد ونعيمة وأنا سأصبر حتى الصباح، سأمر على مطعم أبو علي في باب السلسة وأتناول صحن حمص على الحساب وفي آخر النهار ستفرج)
قطعت عليه نعيمة حبل أفكاره:
- يا حاج كامل، عيار الشبعان أربعون لقمة.
- أربعون لقمة لن يبقى شيء في الصحنين، هذا مثل قديم لم يعد صالحا. كلوا واشربوا وهذا على قلبي زي العسل.
فهمت نعيمة قصد الحاج كامل. فتركت أولادها يأكلون وتظاهرت معهم بالأكل لتتأكد أنهم شبعوا قبل أن تأكل ما تبقى من فتات مع الحاج كامل.
في اليوم التالي خرج منذ الصباح الباكر من بيته يحمل كيسه المصنوع من الخيش، وبعد أن مر على مطعم أبو علي المواجه لطلعة حوش الغزلان في باب السلسلة، تناول فطوره المعهود على الحساب انطلق يشق الشوارع باحثا عن حاويات جديدة لعل فيها أدوات منزلية قديمة رماها أصحابها