المتسولون يبتدعون طرقا متطورة لتحقيق الثراء السريع
عدد المتسولين في المغرب تجاوز 195 ألفا 62 في المائة منهم محترفون
تجاوز التسول كل الطرق القديمة وصار يمتهن باحترافية عالية ويستخدم وسائل متطورة تدر على صاحبها أموالا طائلة، وتجعله من أصحاب العقارات والأرصدة البنكية. ذلك أن ظاهرة التسول لم تعد تشكل آخر منفذ يلجأ إليه من تعذر عليه جني بضعة دراهم تسد رمقه وتلبي طلباته، ولو الجزء البسيط منها، بل إنها أصبحت قطاعا مربحا لا يتوانى بعض الأشخاص الأصحاء في الالتحاق به رغبة منهم في الكسب السهل من دون مجهود يذكر، اللهم إلا ابتكار حيل جديدة تثير شفقة الناس واستعطافهم، أو أحيانا رعبهم وخوفهم، فيمنحون كل ما بحوزتهم.
حوالي 195 ألفا و950 متسولا، هو عدد المتوسلين بالمغرب، حسب آخر الإحصائيات الرسمية، يمثل عدد الرجال منهم 48.9 في المائة، و51.1 في المائة تمثلها النساء. قد يبدو الرقم مهولا وصادما، إذا ما قورن بعدد مؤسسات الرعاية الاجتماعية المشيدة بجل المدن، في إطار إستراتيجية حكومية تهدف إلى محاربة التسول ومحاصرة ممتهنيه، سيما المصنفين في خانة المحترفين منهم. ذلك أن التسول أضحى ظاهرة تعرف ازديادا مضطردا، وغدا وسلة مدرة للدخل، وأحيانا وسيلة للثراء، اغتنت منه بعض الأسر التي باتت ترفض التخلي عنه، كيف لا وهو صار مهنة تعادل أرباحها أضعاف ما يجنيه موظف عاد ينتظر شهريا الحصول على مبلغ قد لا يكفيه لتلبية حاجياته ولاستجابة لطلبات أسرة يعيلها.
ولم تعد أسباب التسول تقتصر على الفقر، إذ تشير الإحصائيات الرسمية الأخيرة إلى أن 51.8 في المائة يمارسون التسول بسبب الفقر و12.7 في المائة بسبب الإعاقة و10.8 في المائة بسبب المرض و24.7 في المائة لأسباب أخرى، تختلف حسب الحالات ولا يشكل العوز جزءا منها.
البيضاء محج المتسولين
يبدو أن العاصمة الاقتصادية قطب لا يجذب إليه فقط الراغبين بالحصول على عمل بأحد مصانعها ومعاملها العديدة، من سكان القرى والمدن المجاورة، بل إن المدينة غدت قبلة للمتسولين من كل حدب وصوب، كما لو أن عدد المتسولين بها لا يلبي الطلب.
فحسب إحصائيات صادرة عن مؤسسة الرعاية الاجتماعية دار الخير بتيط مليل، في محاولة منها لرصد ظاهرة التسول في البيضاء، ينتشر بمختلف أحياء المدينة حوالي 1126 متسولا يتحدرون من مختلف المدن، تتصدرها مدينة سطات ب236 متسولا، و201 متسولا من الجديدة، في الوقت الذي يؤم المدينة متسولون من كل من آسفي وقلعة السراغنة والصويرة وفاس وشيشاوة وخريبكة ومدن أخرى.
ولم يعد المتسولون يقفون كما عهدناهم، أمام أبواب المساجد أو عند مداخل القبور، بل إنهم أضحوا منتشرين في كل الأماكن، بمجرد أن تلج المدينة، عبر محطاتها الطرقية والسككية، تستقبلك وفود من المتسولين، هذا يضع نظارات سوداء ويتكئ على عكازه، وتلك تضع رضيعا بين يديها، أو في أحسن الأحوال تتذرع ببيع علب المناديل الورقية و "كيس" الحمام، قبل أن تستجدي دراهم من مغادري المحطات أو الوافدين إليها... واجهات المحلات التجارية والمقاهي، أضحت مرتعا للمتسولين في الشوارع الرئيسية وحتى في الدروب الضيقة، في حافلات النقل الحضري والعمومي ومختلف الأسواق. كما أن "عملهم" ابتعد عن العشوائية وخطا خطوات هامة منظمة، إذ توحد معظم المتسولين في إطار شبكات منظمة، تعتمد تراتبية واضحة تقوم بتوزيع المتسولين على أماكن معينة، يجب عليهم الالتزام بها إن هم أرادوا الحفاظ على مورد رزقهم، وأحيانا يقوم المتسولون باكترائها مقابل أجر محدد سلفا، يتناسب وطبيعة المكان المختار، يقدمونه لأباطرة الحرفة الذين يتكلفون برسم خريطة الأحياء والممرات وعدد المتسولين والأماكن التي يتعين عليهم ملازمتها.
واستنادا إلى النتائج التي خلصت إليها الدراسة التي قامت بها مؤسسة الرعاية الاجتماعية تيط مليل، تمثل عمالة مقاطعة أنفا، الوجهة التي تشهد توافدا أكبر للمتسولين بما يقارب 365 متسولا ومتسولة، متبوعة بعمالة مقاطعة الفداء بحوالي 262 متسول، لتظل عمالة المحمدية في أسفل الترتيب بما يناهز 26 متسولة.
التسول سبيل لثراء سريع
المثير في هذه الظاهرة، أن التسول لم يعد ذلك الملجأ الذي تأوي إليه فئات مغلوب على أمرها، لم تجد بدا من أن تبيع ماء وجهها مقابل مبالغ مالية زهيدة بعد أن استنفدت كل سبل الكسب المشروعة، بل أصبحت للتسول بالمغرب مدارسه ومناهجه واتجاهاته وتياراته، وأضحى وسيلة للربح السهل تمكن صاحبه من أن يغدو، في بضع سنوات، من أصحاب العقارات والأرصدة البنكية.
وقد يستوقفك متسولون من مختلف الأجناس والفئات العمرية، كل يختار طريقته في التسول، فبعضهم يلجأ إلى الدعاء وقراءة القرآن، والبعض الآخر إلى تأليف قصة مؤثرة يجعل منها وسيلة لكسب شفقتك فتجود عليه ببعض الدريهمات، في حين تلجأ فئة أخرى إلى إظهار أماكن إصابتها بمرض أو عاهاتها، أو تعرض نسخة من وصفة الأدوية التي عجزت عن توفير ثمنها إلى درجة يحتار فيها الشخص في التمييز بين من يحتاج فعلا للمساعدة ومن يتخذ من التسول حرفة يتحايل بها على الناس، فيما تختار فئة أخرى راكبي حافلات النقل بدعوى أنهم خارجون لتوهم من السجن ولم يجدوا ثمن اقتناء تذكرة العودة إلى محل سكناهم، ويخيرون الراكبين بين منحهم بضعة سنتيمات أو سلب محفظات نقودهم وحقائب النساء منهم، ويطرق أحدهم أبواب المنازل بدعوى السعي لجمع المال اللازم لاقتناء مستلزمات دفن أحد الموتى المفترضين في زنقة محادية.
والمفارقة أن تجد بعضا من هؤلاء المتسولين يمتلكون مبالغ مالية بقيمة عشرات ملايين السنتيمات، فضلا عن عقارات سكنية، يقيمون بها أو يعملون على كرائها ويستفيدون من مقابلها الذي يدخل مباشرة إلى رصيدهم البنكي.
وفي معرض الحالات التي تطرقت لها مؤسسة تيط مليل، تم رصد عدد من المتسولين الذين يحتكمون على مبالغ مالية، نذكر من بينهم عجوزا في عقدها الثامن والستين، تمكنت في غضون أربع سنوات فقط من توفير 12 مليون سنتيم، اضطرت مخافة أن تسرق منها إلى الامتناع عن الاستحمام طيلة تلك المدة. ولا تتوفر هذه "الطلابة" على هذا المبلغ النقدي فحسب، بل إنها تتوفر على مستودع بإحدى العمارات الكائنة بحي سباتة بالدار البيضاء، تتقاضى كأجر عن كرائه مبلغ 2000 درهم شهريا، فضلا عن إعانات مادية يقدمها لها، بصفة دورية، قريب لها مقيم بإحدى الدول الأوروبية.
سد الثغرات القانونية جوهر إستراتيجية محاربة التسول
أكدت، قبل بضعة أشهر، نزهة الصقلي، وزيرة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، في معرض جوابها على سؤال شفوي بمجلس النواب، أنه سيعاد تقيم الإستراتيجية الوطنية لمحاربة التسول التي أطلقت سنة 2006، في إطار رؤية لإدماج المبادرات الجهوية، وبلغت تكلفته الإجمالية منذ إطلاقه 16.5 مليون درهم. إذ يقارب عدد المتسولين، استنادا إلى البحث الوطني لسنة 2007، 195 ألف شخص، "لكن 62 في المائة منهم يتعاطون تسولا احترافيا ويستغلون أطفالا وأشخاصا مسنين وأشخاصا معاقين"، توضح الصقلي.
واعتبرت الوزيرة، أن من الضروري، سد الثغرات في الترسانة القانونية الخاصة بزجر التسول الاحترافي، مشيرة إلى أن المادتين 326 و 333 من القانون الجنائي المغربي، اللتين تمثلان النصين القانونيين المرجعيين في مجال محاربة التسول، لا تتضمنان إجراءات رادعة للمتسولين الذين ضبطوا وبحوزتهم مبالغ مالية هامة جدا. ومنذ ذلك الحين، أطلقت الصقلي، دراسة تروم إعداد مشروع قانون أولي، كلفت بإنجازها مجموعة من الخبراء والأساتذة الباحثين والجامعيين من جامعة الأخوين. وأضافت أن التقرير الخاص بهذه الدراسة سيشكل موضوع تشاور بخصوص مشروع القانون هذا مع كل الفاعلين المعنيين، ومن بينهم وزارات الداخلية والعدل والأوقاف والشؤون الإسلامية، وكذا جمعيات المجتمع المدني.
وأطلق هذا البرنامج على مستوى الدار البيضاء والرباط وفاس وصفرو، بينما يوجد في طور الإطلاق بمجموعة من المدن الأخرى، إذ اعتبرت الوزيرة أن هذه التجربة، "هي في مرحلة الإطلاق بمدن أكادير وقلعة السراغنة، فيما تم المشروع في اتخاذ الإجراءات الخاصة بإطلاقها بالنسبة إلى مدن العيون وطنجة وآسفي ووجدة ومراكش، إذ تم توقيع اتفاقيات مع السلطات المحلية والجمعيات، فيما ينتظر التوقيع على اتفاقية مماثلة بالنسبة إلى مكناس". إلى ذلك، تتحدث الأطراف المعنية بوزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، عن ضرورة إجراء تقييم مرحلي للإستراتيجية الوطنية لمحاربة التسول، من أجل دراسة الصعوبات التي كشفتها التجربة السابقة، وإعادة تقويم الإستراتيجية تماشيا مع صلاحيات كل فاعل مؤسساتي متدخل في تفعيل الأخيرة، مع الحرص على تحسين وإدماج المبادرات المحلية التي يتم القيام بها يوميا، وملء الفراغ القانوني الذي لا يسمح باتخاذ إجراءات زجرية وتطوير عمل الأعوان العاملين في الميدان.
جريدة الصباح